سأخبر الله بكل شيء
"سأخبر الله بكل شيء" ؛ هي
كلمات أربع من بين الكلمات القليلة التي تعلمها طفل سوري خلال سنواته القليلة التي
لم تجاوز السنوات الأربع في هذه الحياة الدنيا الدنيئة. هذه الكلمات الأربع على بساطتها
وقلة عددها تتضاءل أمامها أعظم وأبلغ صحيفة دعوى يمكن أن يقوم بصياغتها أعظم
جهابذة محامي الكون، وهو يصور للقاضي التراجيديا السورية المجانية التي لم يجد
كاتب حوارها، وهو يُحبِّرها، سوى دماء الأبرياء حبرا لها. كما لم يجد مخرجها، وهو
يَحبك فصولها وعقدها الدرامية، سوى براءة الأطفال ومشاعرهم الرهيفة الغضة وقلوبهم
الطرية الشفافة، مادة لصناعة تلك العقد الدرامية التراجيديا المحزنة المخزية.
كلمات أربع أجراها الله على
اللسان الغض لهذا الطفل الشهيد السعيد، وذلك حتى تكون هذه الكلمات هي كل كلمات ذلك
البيان المرعب الذي صفع به الطفل المغدور وجوه وأسماع كبراء الدنيا؛ من واشنطن،
حتى بكين، مرورا بموسكو، معلما إياهم درسا
أبدا لن يتعلموه، ومُحمِّلأ إياهم وزرا سيظلون أبدا حامليه.
قبل أربع سنوات فقط وُلِد هذا
الطفل. وفي عيد ميلاده الأول، قبل ثلاث سنوات، قام دكتاتور سوريا وأسدها ابن أسدها،
بتقديم هدية باذخة إلى هذا الطفل وأترابه من أطفال سوريا، والتي هي عبارة عن سلة
سخية من القنابل والبراميل المتفجرة. لم ينس صاحب الهدية أن يغلف سلة هداياه بباقة
من الغازات الأنيقة شديدة السمية، وهو ما أدخل آلاف الأطفال السوريين المساكين في
نوبة فرح قاتلة، وقعها بأنامله الرشيقة الفتاكة غاز السيرين القاتل الصامت اللعين.
الصورة
عاليه، هي صورة هذا الطفل المجروح جرح الموت، وقد غطى دمه المسفوك ظلما كامل جسده،
وغيَّر لون ملابسه. وبرغم ما للدم، وخاصة دم طفل كهذا، من أثر بالغ في القلوب، إلا
أن ذلك لا يمثل شيئا أمام ما تُلقي به عينا الطفل من صور، وهو يحدق في أعين
ناظريه، وخاصة أولئك المتسببين في محنته الوائدين براءته، السارقين حياته!
شخصيا
لم أستطع إطالة التحديق في عيني هذا الطفل، حتى أنني وبمجرد عثوري على هذه الصورة،
وقراءتي عبارة صاحبها البليغة الثقيلة: " سأخبر الله بكل شيء"، سارعت
إلى محاولة التخفيف عن نفسي بتفريغ شحنة مشاعري في هذه الحروف والكلمات.
هذا
الطفل، وقبل أن يلجأ إلى الله ليخبره، لابد أنه بحث عن أبيه وأمه وإخوته طالبا
منهم العون؛ فلم يجبه أحد. كما لابد وأنه قد التمس المساعدة من غيرهم؛ من جيران،
ورجال شرطة، وجيش، وربما شبيحة. إلا أنه لم يفلح أيضا. كذلك لابد وأنه قد خطر في
باله أن يوجه استغاثته تلك إلى أكبر الكائنات التي حوتها ذاكرته الصغيرة، وهو
يشاهد صور هذه الكائنات على التلفزيون؛ بدءا من رئيس دولته أسد سوريا، وانتهاء
بكبار حكام الأرض من غربها إلى شرقها.
لا
جواب! إذن ليس أمام هذا الطفل سوى الله، حيث أطلق صرخته المدوية: "سأخبر الله
بكل شيء"!
في
الوقت الذي نتبادل فيه صورة هذا الطفل، ونردد ما ردد من كلمات، هناك في الملأ
الأعلى من يفعل مثل الذي نفعل؛ من تحديق في عيني الطفل الموؤود، ومن ترديد لعبارته
المشهودة. وهناك في الملأ الأعلى أيضا، وحيث لا ظلم، قاض قوي جبار، ينظر في
المرافعة الكبرى لهذا الطفل الموؤود وأقرانه، ويصدر الحكم النافذ السريع.
المضحك
المبكي إزاء هذه الحقيقة أن الكثير من صناع هذه المآسي، ومقاولي سفك الدماء مجانا،
لا زالوا يوصلون الليل بالنهار، وهم يطورون أفكارهم الشيطانية، ويشحذون أسلحتهم
الجهنمية من أجل تهديم البيوت على ساكنيها، وقتل المزيد من الأطفال والنساء.
كراسي،
أيديولوجيات، متاع دنيوي زائل، هوى نفوس رخيص؛ هي كلها سكاكين نحملها جميعا، ونذبح
بها بعضنا بعضا، نحن أبناء الوطن الواحد: في سوريا، أو في العراق، أو في اليمن، أو
في مصر، وحتى في بلادنا ليبيا.
مهما
كانت حجج أصحاب الكراسي والأيديولوجيات، فإن أعظم هذه الحجج تسقط أمام أول قطرة دم
لطفل بريء كهذا الطفل. كما أن تلك الحجج لا تقوى البتة أمام كلمات كتلك التي حوتها
شكوى الطفل السوري الصغير المرفوعة رأسا إلى ربه جبار السموات والأرض.
هذه
ليست عظة جمعة، وإنما هي حقيقة مؤلمة موجعة تلخصها بوضوح نظرة الشهيد الطفل، وهو
يعاني سكرات الموت، وتؤكدها عبارته المزلزلة: سأخبر الله بكل شيء!
رددوا
هذه العبارة وأنتم تنظرون في عيني الطفل. كان الله في عون ضعاف القلوب أمثالي!
محمد
عبد الله الشيباني
aa10zz100@yahoo.com
Libyanspring.blogspot.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق