الأربعاء، أغسطس 03، 2011

لن أتنحى



                      
ــ تنحَّ
ــ لن أتنحَّى

كلمتان؛ أولاهما قالها الشعب بأكمله، وقضت بها السنن والأعراف، والأخرى أصر عيها حاكم متسلط فرد، بل زاد على إصراره غير المشروع بأن أقدم على إشعال حرب بينه وبين شعبه، سقط فيها الألوف في حرب ما كانت لتكون، لو أن هذا الحاكم أنصف شعبه، وأعطاه حقه في حكم نفسه بنفسه.
ينجلي مشهد الحوار على أحد ثوار السابع عشر من فبراير، ممن عاصروا حكم القذافي، وكان شاهدا على الكثير مما اقترفه، وقد خطر له أن يتحاور مع القذافي، في أحد مخابئه، وذلك على رجاء أن يوقف الحرب التي يشنها على شعبه ويتنحى، ودار بين الثائر الجديد المنتفض، والثائر القديم المتسلط، الحوار التالي:  

ــ يكفيك إثنان وأربعون سنة من الحكم المطلق. تنحَّ، وخلَّ الشعب الذي فك قيده، يملك غده.
ــ لا، ولن أتنحَّى.

ــ لماذا. يا هذا؟
ــ لأني ثائر. من البادية. من الخيمة.

ــ نعلم ذلك، ولكن كل الذي ذكرت لا يحمل معنى التسمُّر في مكان واحد، والانتصاب فيه، وعدم التزحزح عنه؛ فالثائر دائم الحركة والفوران والثوران. هذا إذا كنت ثائرا حقاً.  كما أن البدوي، وكما هو معروف، دائم التنقل والترحال، باحثا عن الماء والكلأ. وكذلك الخيمة التي تتخذها شعارا، فهي لا تشير بحال إلى المكوث في مكان واحد، وعدم التحول عنه. ثم إنك في واقع الحال من سكان القلاع والقصور، ومن أثرى أثرياء الدنيا، وأترفهم عيشا.
ــ كأنك لا تعرف مع من تتحدث، أو أنك تتحدث من مكان قصيّ ، ومنذ زمن غابر!

ــ كلا إني أحدثك أنت، القذافي، الذي لا تخطأه الأبصار، ومن هنا، من عاصمة ملكك طرابلس، وفي منتصف العام الحادي عشر بعد الألفين الميلادية.
ــ لا أصدق ذلك!

ــ كيف؟
ــ طرابلس العاصمة، وبنغازي حبيبتي، ومصراتة حاضنتي، وغيرهم من مدن ليبيا وحواضرها العريقة، كلها أعرفها، وأعرف أهلها، كما أنني قضيت من عمري أكثر من أربعة عقود في تثوير هذه المدن، ونقض كل معلم حضري زائف فيها، واستبدلته بمعلم بدوي ثوري أصيل. ولعلك تعلم، ويعلم الجميع، بأنني أنا من جعلت الخيمة تنتصر على القصر، وكسرت بعصاي هذه تاج الملك.

ــ تقصد أنك بدونة هذه المدن، عفوا ثوَّرت، على رأيك، هذه المدن؟
ــ أممم. ليكن كذلك.

ــ حسنا. لكن يظل ذلك مجرد كلام إذاعة، وأضغاث أحلام ثائر، ولا يغير من الواقع شيئا. وفي الوقت نفسه لا يبطل أو يلغي ويشطب تاريخ الحواضر والمدن، وما فيها من ثقافة متراكمة، وعمران تدرَّج بعضه فوق بعض، حتى لامس السحاب.
ــ عن أي ثقافة تتحدث، وأي عمران. ألم تر إلى حصيلة العقود الأربعة الماضية من الثورة، وما فعلته يداي هاتان في فكر ووجدان السواد الأعظم من الليبيين؟

ــ ماذا فعلت؟
ــ قمت، ومنذ أن استقر الأمر لي، بتقسيم الليبيين إلى معسكرين؛ أحدهما وأقواهما، وإن كان أقلهما، ثوري، انتقيت أفراده بعناية كاملة، وجعلتهم نسخة مني، فتشرَّبوا أفكاري، وصاروا سيوفا مسلطة على المعسكر الثاني، والذي، ورغم كثرته، فإنه مجرد غثاء كغثاء السيل، وإن أبدى الممانعة وعدم الرضى.

ــ تقصد أنك تعمدت المجيء من البادية إلى المدينة، لتثور على ما تحويه المدينة والحاضرة من مبادئ وقيم وثقافة وعمران، حتى تحولها إلى قبيلة، وتنصب نفسك شيخا عليها، وبذلك تخلو المدينة من كل ما يزعجك ويكدر صفوك، وتتحرر من كل التزام يلتزم به الناس في مدنهم وحواضرهم، وما يخضعون له من ضوابط وقوانين وأعراف؟
ــ أممممم. بلى. شيء كهذا.

ــ ألأجل ذلك قمت بالانقلاب العسكري، ثم ألحقته بالثورة الشعبية التي عطلت بها القوانين السائدة، واستبدلتها بما جاء في كتابك الأخضر من ترهات. ثم لم يمض إلا وقت قصير، حتى عمدت إلى الدولة فنقضتها من أساسها، وجعلتها مسخا، وابتدعت لها نظاما أرهق الأذهان، واخترعت لها اسما، الجماهيرية، حيَّر المعاجم؟
ــ إنها الجماهيرية العظمى! ألم أقل لك إنك تتحدث من مكان وزمن بعيد؟

ــ كيف. علِّم يا قائد علمنا؟
ــ نحن الآن يا مغفل في عصر الجماهيريات الذي كان لي شرف تدشينه وريادته، وكل العالم الذي حولنا أسمعه يتكلم باللغة الجماهيرية، البعيدة كل البعد عن لغتك المتحجرة التي تخاطبني بها الآن.

ــ كلا أيها المفكر العظيم. إنني أخاطبك، وأنا أتمثل قولك المعروف: إن الجهل سينتهي عندما يظهر كل شيء على حقيقته.
ــ ماذا تقصد؟

ــ أقصد أنك ظهرت على حقيقتك؟
ــ أيُّ حقيقة؟

ــ حقيقة أنك ثرت من أجل أن تحوِّل ليبيا، ومن بعدها العالم أجمع إلى كائن جماهيري، لا يعلم تركيباته وأدواته أحدا سواك، وهو، وكما يعرف الجميع، كائن مسخ متناقض، جسمه يتخبط في الحاضر مذهولا بجديده، وعقله ووجدانه هناك، حيث المجتمع البدائي البدوي الذي تهواه وتعشقه، لا لذاته، ولكن لتتكئ على أدواته، وتلفت إليك الأنظار بفلكلوره ولمحاته.
ــ حقا. هل فهم الناس الأمر على هذا النحو؟

ــ أجل. لم يختلف إثنان على هذا. ألم تتعمد، وبتكلف مخجل، حملَ خيمتك إلى حواضر الدنيا وعواصمها الكبرى، وكذا حملت إلى هناك ناقتك؟
ــ بلى.

ــ ألم تسيِّر البلاد التي ابتلاها ربها بك، ليبيا، من داخل خيمتك، وحولك أولادك وأفراد قبيلتك وعصابتك المعروفون؟
ــ بلى.

ــ ألم تهرب من أضواء الحواضر بعدما نكرت، هذه الحواضر، فعلك وسفهتك؛ فلذت بأدغال أفريقيا، وتسولت منها اسما موغلا في التخلف والقدم، ملك ملوك أفريقيا؟
ــ بلى.

ــ ألم تتخذ من أبنائك، وعديلك، وأقرباء دمك، قادة لكتائبك التي حلت محل الجيش الليبي الذي أسسه الآباء والأجداد في نصف القرن الماضي، كي يكون بعد نصف قرن من تأسيسه جيشا قويا متكاملا، لا مجموعة ميليشيات يقودها أبناؤك.
ــ بلى.

ــ ألم تتعمد إكثار ذريتك التي، ولحكمة الله في الإملاء لأمثالك، جعل جلها ذكورا، وأورثهم كل جيناتك، حتى بدوا وكأنهم أنت. سبحان الله!
ــ بلى.

ــ ألم ترتد عباءة شيخ القبيلة، وتحمل عصاه، وتهش بها على كلابك الأليفة؟
ــ بلى.

ــ ألم تخلع أيها الشيخ عباءتك، وتضعها على أحد أبنائك، سيف، في إشارة واضحة إلى توريثه عرشك الجماهيري العظيم.
ــ بلى. ولكن، مهلا، لماذا تنتقد البداوة، يا هذا. كأنك لست بدويا؟

ــ كلا إنني بدوي، كما هو حال كل الليبيين، ولكنني لا أصطاد في ماء البداوة العكر، وأتغزل في البداوة، وأتعصب لها، ولا أعيشها. ثم أقدح في المدينة، وأنا مفتون بها، أسير لمنتجاتها. إن المدينة، وكما يعلم الحميع، هي الكيان الأسمى لكل مجتمع إنساني. ذلك أن الإنسان منذ أن خلقه الله وهو يتدرج ويعلو من حالة البداوة البدائية، إلى حياة التحضر والتمدن، وليس العكس. دعنا من هذا الآن، ولنعد إلى موضوعنا هيا، ألا تريد أن تتنحى، وتريحنا؟
ــ هههههههه.

ــ ما الذي يضحكك؟
ــ أضحك على غبائك؟

ــ وهل الذي قلته يحوي شيئا من غباء؟
ــ أنت، وكل العالم أغبياء. كلكم أغبياء، وجهلة.

ــ كيف؟
ــ ألم أقل لكم مرارا، ومنذ زمن بعيد، أنني لا أحكم؟

ــ إذن فلمَ كل هذه الدماء التي تجري حول أركان خيمتك حتى تكاد تغرقها؟
ــ بالنسبة لي، ليس غريبا عليَّ هذا المنظر،منظر الدماء، فمنذ أن أقمت جماهيريتي وأنا أريق حول جوانبها الدماء.

ــ كانت تلك الدماء، دماء باردة، أجريتها وأنت تدغدغ أصحابها، الليبيين  المخدوعين بك، وتمنِّيهم بولوج الجنة التي وعدتهم، ولكنهم وبمجرد الإفاقة من إغماءة الدغدغات التي أغرقتهم بها، اكتشفوا حجم مؤامرتك وخديعتك.
ــ لا بأس إن لم تعجبكم الجماهيرية الأولى، فها نحن نجري الدماء من أجل الولوج إلى عصر الجماهيرية الثانية، الفردوس الأعظم.

ــ هذه الدماء التي تجري الآن دماء ساخنة، لا يريقها أصحابها إلا بثمن، ولن يُخدعوا هذه المرة، ويلتقطوا نفس الطعم الجماهيري السابق.
ــ من. تقصد ال.......  الجرذان؟

ــ كلا. إنهم ثوار السابع عشر من فبراير. هكذا يسمون أنفسهم.
ــ لا ثورة بعد ثورة الفاتح من سبتمبر، ولا ليلة بعد ليلة السابع من أبريل، ولا دولة بعد الجماهيرية.

ــ هذا يعني توقف الزمان، وتصلب المكان، وتيبس الإنسان، وتجمَّد التاريخ.
ــ ليكن، ما دام الرمز الجماهيري قائما وثابتا.

ــ أفصح. أي رمز تعني؟
ــ وأيُّ رمز أجدر أن يذكر، ويبقى، غيري أنا. أنا رائد عصر الجماهير، وصانع الجماهيريات؟

ــ نحن لم نرفض ذلك، ولم نقاتلك، وننازعك على الرمز، وإنما نقاتلك من أجل طرد الفقر والعوز، وجلب النصر والعز، أيها الرمز.
ــ العز، والرز، وكل الذي يفرح النفوس ويهز، أوكلت أمره إلى سيف، فهو من سيؤمنه لكم. هيا انصرف أريد أن أنام.

ــ سيفك هذا، وبعد أن نفض عنه غبار الإصلاح، أظهر صفاءه الجيني الممتد إلى أعماق نخاعك البدوي الجماهيري.
ــ أنا لن أتكرر. هل سمعت؟ وما يفعله سيف، ليس إلا مداهنة لي، وخوفا من غضبي.

ــ عجبا. حتى سيف يخاف منك؟
ــ أجل. وكل من حولي. أممم. وهل أنت أيضا تخافني؟

ــ أجل.
ــ منذ متى؟

ــ منذ أن كنت طالبا في الثانوي، وشهدت شنق الطلبة في الجامعة.
ــ أمممم. كأنك جئت، وفي هذه الساعة المتأخرة كي تؤرقني، وتحرمني لذة النوم.

ــ هل فيما قلته ما يؤرقك؟
ــ أجل. 

ــ ما ذلك؟
ــ أفعال غير سوية، فعلتها إبان مراهقتي الثورية؟

ــ يا للعجب. هل الرموز أمثالك يمرو  و ....
ــ لا تقل أمثالك، فأنا ليس لي مثلا أبدا. ألم تسمع؟

ــ أعذرني على زلة لساني، أيها الرمز الوحيد. ولكن حدثني عن المراهقة الثورية،  وكيف مررت بها؟
ــ لم أمر بها من تلقاء نفسي، ولكن نفرا من بطانتي، لا سامحهم الله، غلفوا لي الأمر، وحملوني ما ارتكبوه هم من أوزار، فنتج عن ذلك عمل المراهقين الثوريين الذي رأيت بعضا منه، وليس كله، في الجامعة.

ــ هذا لا يهم، فأنت وبطانتك تجمعكم خيمة واحدة. لنعد إلى موضوعنا، التنحي.
ــ عد. ولكن لا تطل عليّ. أريد أن أنام. لأني متعب، ولم أشبع في النوم منذ شهور.

ــ إذن أرح نفسك وأرحنا وتنح، ونم ملء جفنيك.
ــ حقيقة الأمر أنني فكرت أكثر من مرة في أمر التنحي هذا، وناقشته باستفاضة مع أبنائي، شركائي في الحكم، ودليل ذلك محاولاتي الكثيرة للتفاوض مع الثوار والناتو. ولكن ....

ــ ولكن ماذا؟
ــ أقصد تلك المواقف الحرجة الذي تنتظرني، لو أقدمت على الاستقالة..

ــ أي مواقف حرجة تعني؟
ــ موقفي الحرج الحسابي، والوجداني، والرمزي، .... وغيرهم كثير.

ــ هذا طريف! حدثنا أولا عن الموقف الحرج الحسابي؟
ــ ماذا أقول لك. لا سامح الله عصابة الأربعة.

ــ أي أربعة؟
ــ من غيرهم؛ بن علي، وامبارك، وبشار، وصالح. لا أصلح الله حالهم جميعا.

ــ ما بهم؟
ــ لعبوها كويس هذه المرة.

ــ حيرتني. ماذا تعني؟
ــ كما ترى، وضعوني هؤلاء الملاعين الأربعة، كطازج الساندوتش، في منتصف المسافة بينهم؛ فلا تقدمت، ونلت شرف التدشين للربيع العربي، كما هي عادتي دائما، ولا تأخرت، فسرقت أضواء الخاتمة كلها، وكتبت بنفسي نعي الخريف العربي المنصرم المتهاوي. يا الله كم هم ذوو مكر وحيلة!

ــ هذه بسيطة، ويمكنك الخروج منها، بأكثر من عذر.
ــ صحيح. ما هي هذه الأعذار. قل لي. أسرع؟

ــ عذرك الأول، أنك لست رئيسا تقليديا مثلهم، ولا يمكن أن تكون أحدهم، فأنت قائد، وهم ليسوا كذلك.
ــ إيه، والثاني. ما هو قل؟

ــ وعذرك الثاني، أن نظامك جماهيري لا يشابه أنظمتهم، ولا يخضع لما يخضعون له من ضوابط وقوانين. والعذر الثالث أن السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب الليبي، وليس مثل شعبهم المتخلف.
ــ والله صحيح، منذ زمن بعيد وأنا أعدُّ نفسي لمثل هذه المطبّات. ألم تر كم أنا ذكي ألمعي.

ــ حسنا. ها قد تجاوزنا هذه المعضلة. هل ستتنحى الآن؟
ــ لا تستعمل هذه الكلمة، التنحي. لأنني أكرهها كما أكره الكثير من الكلمات الرائجة هذه الأيام، من مثل: الانتقالي، والدستور، وحتى كلمة الثورة التي كنت أتنفس عبير حروفها، وألتذ بشجي لحنها، بتُّ الآن أكرهها. وعلى كل حال، وباعتباري أختلف عن الحكام الآخرين كما قلت آنفا، فكذلك كلمة التنحي اللعينة هذه، يجب أن تختلف صياغتها عندما أخاطب بها. أرجوك!

ــ حسنا. نستبدلها بكلمة التقاعد. أي تتقاعد بدل أن تتنحى. ما رأيك؟
ــ لا بأس بها، ولكن هناك مشكلة.

ــ ما هي؟
ــ تعلم أنني سبق وأن صرحت في خطابي المشهور" زنقة زنقة " بأنني لست ممن ينطبق عليهم قانون التقاعد، وإجراءاته واستماراته وأوراقه.

ــ صحيح، فقد قلت "لو أني رئيس لوَّحت لستقالة على وجوهكم".
ــ  أجل قلتها. يا شينك حصلة. ماذا أفعل؟

ــ لنضع شكلية فعل التقاعد الآن جانبا، فقد يجد بعض الإداريين لذلك حل، ولنتطرق الآن إلى مشكلة الحرج الثالث، الوجداني الذي ذكرت.
ــ الحرج الوجداني، أوجده كما تعرف طول بقائي، والتصاقي الحميمي القريب من درجة الشذوذ بكرسي حكم الدولة الليبية، وبما يعادل مدى ثمان دورات من دورات الحكم المعروفة. وكذلك ما ورطتني فيه بطانتي الداخلية والخارجية من أسماء وألقاب اشتهرت بها، كان آخرها لقب ملك ملوك أفريقيا، وكذا تلك القلائد، والشناشين، والقطاطيف، والألبسة الأفريقية المزركشة التي غمروني بها الزنوج الماكرون حتى كادوا أن يخنقونني.

ــ إن كان هذا كل الذي يزعجك وجدانيا، فهو أمر شكلي، ويمكن تلافيه، ربما ببعض جلسات التقويم النفسي المعروفة.
ــ كلا، ليس هذا كل شيء، هناك أمر آخر.

ــ أففف. أرهقتني. ماذا بعد؟
ــ الأولاد.

ــ ما بهم الأولاد؟
ــ إنهم، وعلى حين غفلة مني، سرقوا كل مخزون مراهقتي السياسية الذي رأيتَ أنت بعض ملامحه في الجامعة، من شنق وتنكيل بالمواطنين. ورغم حرصي، وإخفاء ذلك على أبنائي، إلا أنهم اكتشفوه مؤخرا، ونهلوا منه الكثير، حتى بدوا وكأنهم أنا، إبان مراهقتي الثورية اللعينة تلك. وإذا ما صادف وتنحيت، فسيحدث ذلك صدمة عنيفة لهم، غداة يوم الاستقالة، عندما يستيقظون، ويجدون أنفسهم مواطنين ليبيين عاديين، لا مخالب لهم ولا أسنان، ولا حتى بندقية صيد.

ــ هذا تعالي وتكبر ونزق وطيش واعتزاز بالإثم، يجب أن يتخلوا عنه، ولو لم تتنح أنت.
ــ لا أريد أن أشاحَّك في مصطلحاتك النارية التي تقذفني بها. المهم أن هذا الأمر يزعجني، ولا أرغب في مواجهة أبنائي به، وكسر خواطرهم المرهفة.

ــ وهل هذا على درجة من الأهمية، حتى تجعله في مستوى سلامة الوطن وأمنه؟
ــ أجل. فأنا لم أطق أن يُعامل ابني هانيبال أسوة بالسويسريين، فكيف أطيق أن يُسوَّى، إذا ما تنحيت، بينه وبين وبقية الليبيين العاديين الذين لم يكونوا، وطوال العقود، سوى عبيدا لأبنائي.

ــ بإمكان أبنائك أن يعيشوا أمراء، في مكان ما من أرض الله الواسعة.
ــ  كيف يا مغفل يمكنهم أن يكونوا أمراء، وليس لهم شعب مثل الشعب الليبي، يمارسون عيه إمرتهم. ثم أين أرض الله الواسعة! إنها كانت كذلك، ولكن كامبو، كمبله الله، ضيق علينا الواسع.

ــ هذا أمر بسيط، وقد يجد له الخبراء القانونيون مخرجا ما. حدثني عن الحرج الثالث، الرمزي الذي ذكرت؟
ــ الحرج الرمزي هو ثالثة الأتافي كما يقولون، والذي اخترعته، لكي أخدع به الآخرين، فخدعت به نفسي دون أن أدرك.

ــ أهههه. كيف؟
ــ بمجرد أن أطلقت هذا الاسم، الرمز، على نفسي، صدَّق من هم حولي ذلك، ولقلة علمهم بالرموز، وسوء تقديرهم لأي رمز، واقتصار معرفتهم على المدلول الرياضي البسيط  لهذه الكلمة، بدءوا يعاملونني كما لو أنني رمزا حسابيا، أو مجرد شارة توضع من أجل التعريف بشيء ما، ولا شيء غير ذلك.

ــ حقا. أنا ايضا لاحظت ذلك.
ــ ماذا تقول. أين. كيف. متى، ..، ..؟

ــ لا تنزعج، فقد رأيت ذلك في التلفزيون. في إحدى قنواتك الفضائية.
ــ ماذا رأيت؟

ــ رأيت بعض ثقيلي الدم من مذيعي الفرصة الذين يظهرون في إذاعاتك، وكأنهم وضعوك جانبا، وبدءوا يصدرون الأوامر الخطيرة؛ كالقتل، والقبض، بل وحتى أوامر عسكرية كالهجوم، والاكتساح، والتدمير، والدعوة غلى حرب أهلية، وغير ذلك كثير. بل بدوا وكأنهم هم من يقودون المعارك، لا أنت.
ــ تقصد الثلاثي الليلي؛ حمزة، وهالة، وشاكير؟

ــ أجل، وربما غيرهم كثير.
ــ ماذا أفعل، فالحاجة تدفعك إلى أكثر من هذا. لو لم تنتفضوا أنتم عليَّ، يا عصابة ال(17)، ما وجدوا تجار الكلمات والمواقف هؤلاء إلى القنفوذ والليبية والشبابية  سبيلا. ولا اضطررت إلى مرقص باب العزيزية السخيف.

ــ كل هذا بسبب تسمية نفسك بالرمز.
ــ يا كليمتي ولّليلي!                  

ــ ولكن، تمهل. ألا ترى أن قرار تحولك إلى رمز، قد يسهل عليك فعل التنحي الذي يشغل الدنيا هذه الأيام.
ــ حقا! هل ترى ذلك؟

ــ أجل، ذلك أن، ترمزك الذكي هذا، أو تحولك إلى الحالة الرمزية، أعطاك مساحة واسعة من المناورة، وبالتالي يسهل عليك كثيرا أمر التنحي.
ــ كيف؟

ــ أقصد أن تنحيك، وأنت في الحالة الرمزية الشفافة، أخف وطئا من تنحيك وأنت في الحالة الطبيعية الثقيلة التي يعرفك بها الناس.
ــ ماذا تقول. من فضلك لا تزدني هما على هم؟ إنك بهذا تدخلني في هوس نفسي، وازدواج شخصية عانيت طويلا منه فيما مضى. كيف أكون رمزا حسابيا رياضيا، وأنا أمامك أتكور في عباءتي السوداء حياً أرزق؟

ــ إنني لم آت بجديد، أنت من أردت ذلك، وصرحت به.
ــ في الحقيقة، لست أنا صاحب فكرة الرمز هذه، وإنما أبنائي هم من أوحوا لي بذلك، ربما طمعا منهم بحكم البلاد، بعدما يضعوني في القفص الرمزي الذي صنعوه لي. والذي، ورغم كرهي له، قبلت به قبل الانتفاضة، ولكن أفراد الحرس القديم الملعونين، وقفوا عائقا أمامي، وأمام سيف.

ــ هل تقصد أن الحرس القديم هم من خربوا بيتكم على رؤوسكم بالوقوف في وجه الإصلاح، وسببوا لكم هذا الموقف الصعب؟
ــ أجل. ومن غيرهم؟

ــ هم أيضا خربوا بيوت الليبيين بأوامرك. أليس كذلك؟
ــ ذلك أمر وانقضى، ولا أحب أن يذكرني به أحد.

ــ لم ينقض، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، يا طاغية الزمان.
ــ هذا أعرفه. ما العمل الآن؟

ــ عدم التمادي أكثر، وعدم تكرار مأساة صدام وأبنائه، فلن ينفعك الحرس القديم الذين ضيعوا عليكم وعلى الشعب الليبي فرصة الإصلاح الذهبية، ووضعوك أنت وعائلتك في هذا المثلث الحرج.
ــ آآآآه. أحس بالاختناق حقا!

ــ أمم .. فإنهم يألمون كما تألمون.
ــ ماذا تقول؟

ــ كلا أحدث نفسي.
ــ حدث نفسك، ولكن دعني أنام.

ــ نمْ، ودعنا ننام. وقم صباحا، وأعلن التنحى على الأنام، وتب لربك قبل يوم القيام.     خذ؟
http://www.youtube.com/watch?v=XxsMPOUTcHo

 ــ أه. ما هذا؟

ــ إنه رابط موقع على شبكة الانترنت.
ــ لعن الله هذه الشبكة الخبيثة، وقتل عنكبوتها المفترس الذي دمر بيوتنا، وأغرى بنا الصغار قبل الكبار.

ــ أعرف أنك تحب الشعر، لذا أحضرت إليك هذا الرابط على اليوتيوب لقصيدة شعر أرسلها إليك الثوار، وأنا على يقين أنك لو سمعتها لوحدك، ثم نظرت إلى وجهك في المرآة، وتذكرت تاريخ ميلادك، وحسبت عمرك، وعدد سنين حكمك، ثم قارنت كل ذلك بآخر رقم جاءك عن عدد من مات من رعيتك ،وعدد من جرح، وعدد من أصيب بعاهة مستديمة، في هذه الحرب غير الواجبة على الإطلاق، وعدد من تشرد. لو فعلت كل ذلك سوف يصبح عليك الصباح إما متنحيا أو منتحرا.
يقفل مشهد الحوار على رجل سبعيني، واضعا رأسه بين يديه، وقد تكور وتكوم في عباءة سوداء، وألقى بنفسه أمام شاشة الكومبيوتر يستمع بإنصات، وينظر باهتمام إلى مشاهد قصيدة رباعيات ثورة السابع عشر من فبراير المجيدة.

ألم     تر     كيف      طردنا      الكَرى
وليلاً         ثقيلاً        سَجى       أدهرا

لسبعٍ     وعشرٍ      له       قد      خلتْ
حضنّاهُ               فبرايرَ         الأنورا

لمحناهُ       حُلماً        بليلِ      العصور
وجدناه       صُبحاً       سميعاً       يرى

يُزحزحُ       عنّا        ركامَ       الدهورِ
ليخبرَ       عنا         جميعَ        الورى
                       
                                         ...............................................
                                         ............................................... 
                                         .............................................. الخ        

ولأن الحاكم المتعنت يخاطب شعبه من الحفر والكهوف، ولا يعلم أحد مكانه ولا حاله، فسيظل المشهد الأخير لهذه التراجيديا المؤلمة مرهونا بما تسفر عليه هذه الحرب، والذي وبكل تأكيد سيكون تنحي الطاغية، وسينتهي الحوار بكلمة: تنحيت.

ــ لماذا أيها المجرم لا تقلها قبل خسارة كل هذه الأرواح والمقدرات؟
ــ لأن ليبيا ليست مصر وتونس، كما أن معمر القذافي ليس بن علي، ومبارك.   

أجل. إن القذافي ليس ككل الطغاة. إنه الرمز؛ رمز الطغيان، ورمز الجبروت، ورمز الحمق، ورمز التكبر، ورمز السفاهة، ورمز العدوان. وبكل تأكيد رمز كبير من رموز عظماء جهنم!

محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: