محمود الناكوع، سيد المكان الذي كان منه يروع !
الأستاذ محمود الناكوع من أوائل المناهضين لنظام القذافي، ذلك النظام الذي لا يجد من يعارضه من سبيل أمامه، سوى القتل أو السجن، أو يفعل ما فعله الناكوع منذ عقود طويلة، ويغادر بلده مكرها، ليلتمس له مكانا في أرض الله الواسعة، يتحصل فيه على حق اللجوء السياسي، وهو الحل الوحيد للنجاة من جحيم الوطن، وبأس أولي القربى.
بدا أمر مغادرة الوطن، للنجاة من بطش القذافي، حلا ممكنا في أول الأمر، لكن سرعان ما تغير الحال، وقام القذافي بتحويل الملاذ الوحيد، العيش بالخارج، إلى خط مواجهة ساخن بينه وبين الفارين من بطشه، وحول سفارات ليبيا إلى مركز قيادة وتحكم لحرب ضارية، ليس لها من هدف سوى تصفية أولئك الفارين بجلدهم، والذين وجدوا في البلد الغريب كبدا رطبة، عوضتهم عن تحجر أكباد وقلوب بني وطنهم ودينهم.
من المعلوم أن مقر سفارة دولة ما في بلاد ما، يعتبر جزءا من أرض الدولة صاحبة السفارة، وإذا ما صادف ومر مواطن من مواطني الدولة صاحبة السفارة على هذه السفارة، ورأى علم بلاده مرفوعا عليها، فإنه يحس وكأنه أمام بيته وبين أهله.
كانت السفارات الليبية، ولمدة طويلة، على الحال الذي ذكرت، وذلك قبل أن يطأها الهكسوس، سفراء صعلوك جهنم، القذافي، ويحولوا تلك السفارات إلى مكاتب، أو قل أوكار، تتدلى فوقها خرقة خضراء، تنخلع قلوب الكثير من الليبيين بمجرد رؤيتهم لها، وتتوتر أعصابهم، وترتجف فرائصهم، وذلك بسبب ما تراكم واستقر في أذهانهم من رعب هذا المكان، وفظاعة من هم فيه. وهو رعب مبعثه يقين صادق بأن هذا المكان ما هو إلا الفناء الخلفي لجهاز الأمن الخارجي، والداخلي، وكذا مكتب اللجان الثورية، وغيرها من الأجهزة التي عملت، ومنذ إنشائها، على تقسيم المجتمع الليبي البسيط إلى قسمين؛ أحدهما قوامه الثوريون أعضاء الحزب الحاكم، وهم الآمنين والمطمئنين داخل البلاد وخارجها، أما القسم الثاني فقوامه سواد الشعب، والذين هم دائما محل شبهة، أينما كانوا، سواء في داخل البلاد، أو لاجئين خارجها.
المكتب الشعبي في لندن"سفارة ليبيا"، مكان مررت به سنة 1978، صحبة صديق لي، يدرس هناك، وإذا بي أفاجأ بوجود شباب ثوريين حديثي التخرج، يعتلون مناصب رفيعة في ذلك المكتب، منهم من كان زميلي وأعرفه ويعرفني، ولكنه، ولأنه ركب الموجة، وأضحى ثوريا، تخطى كل درجات السلم الوظيفي الدبلوماسي، وأصبح عضو اللجنة الشعبية بالمكتب الشعبي في لندن، وهي مرتبة تعادل درجة سفير، أو قنصل، أو ملحق، أو غيرها من الدرجات الدبلوماسية الرفيعة.
كانت تلك هي زيارتي الأولى والأخيرة لسفارة بلادي ليبيا في لندن، وتتالت بعد ذلك أخبار وملاحم هذه السفارة المدارة من قبل الهكسوس سفراء الهكسوس، والذين لم يُعينوا هناك، إلا لما ظهر عليهم من مواهب فذة في متابعة ورصد أي لاجئ ليبي.
اللاجئون الليبيون، جميعهم، وفق رأي الأجهزة الأمنية، متلبسون بتهمة عدم حب معمر، وغير راضين عن النظام الجماهيري البديع؛ وهاتان التهمتان عقوبتهما حسب شريعة الثورة، هي: الإعدام، وبدون محاكمة!!
شرع الدبلوماسيون الثوريون، وبمجرد استلامهم السفارة، وتحويلها إلى مكتب شعبي في حصر كل ليبي متواجد على الأرض البريطانية، لا من أجل رعاية شانه، والتواصل معه وتفهم وضعه، ومساعدته على العيش هناك، أو إقناعه بالرجوع إلى أرض الوطن، موئل وملاذ كل ليبي، مهما كانت أفكاره وتوجهاته وآراؤه، ولكن من أجل وضع اسمه في القائمة السوداء، وانتظار الفرصة المواتية لقنصه.
بدا المكتب الشعبي الليبي في لندن، في نظر اللاجئين الليبيين هناك، كما لو أنه وكالة، أو مركز متقدم للأجهزة الأمنية الممسكة بخناق كل مواطن داخل البلاد وخارجها، ولم يعد بإمكانهم زيارة ذلك المكان، أو مجرد التفكير في ذلك، لأن ذلك وببساطة شديدة يعني الموت.
تخطى الدبلوماسيون الهكسوس كل الخطوط الحمراء التي تعرفها الدنيا، وجاوزوا كل حد، وذلك عندما قرروا الخروج من مقر المكتب الشعبي، حاملين مسدساتهم، للقيام بقنص طرائدهم على الساحة الانجليزية، أينما وجدوا. وبذلك تحول كل مكان في بريطانيا إلى ساحة حرب، ولو كان هذا المكان مسجدا يرمز إلى دين ليبيا المسلمة. كما تحول كل زمان إلى زمان حرب، ولو كان يوم جمعة، يبدى الانجليز أنفسهم احترامهم له، باعتباره يوم الصلاة الأسبوعية للمسلمين.
في ساحة أكبر مسجد في لندن، وبعد ما سلم الإمام مؤذنا بنهاية صلاة الجمعة، تقدم دبلوماسي هكسوسي ثوري ليبي حاملا مسدسه الدبلوماسي الناعم الصوت، وسلم على المواطن الليبي المهاجر محمد مصطفى رمضان سلاما هكسوسيا حارا، وعانقه عناقا ثوريا ساخنا، وإذا بالرجل المسلم القريب العهد من زيارة ربه في بيته، جثة هامدة، وإذا المصلون القادمون من مختلف أصقاع الأرض، في غاية الدهشة، وهم ينظرون إلى مشهد تراجيدي بطله رجل هكسوسي من مخلوقات الألف الثانية قبل الميلاد، يقتحم عليهم مسجدهم، في أواخر القرن العشرين، وفي عاصمة الدنيا، ومعقل التمدن والتحضر، ثم يجبر أحدهم على مشاركته رقصته، رقصة الاغتيال، والتي لم يعلمه سيده، صعلوك جهنم سواها، فانجلي المشهد على صورة ماساوية، نكرها أهل الأرض، وضجت منها ملائكة السماء؛ أحد المصلين بذبح في ساحة المسجد!!!!!!!
تتالت الفتوحات الدبلوماسية المظفرة للمكتب الشعبي الليبي في لندن، وتوالت الغزوات الثورية الهكسوسية، على الليبيين اللاجئين هناك، وسقط منهم الكثيرون، وضاقت عليهم أرض الانجليز بما رحبت، فقرر من بقي منهم البوح بمعاناتهم، وإعلام العالم بأن سفارة ليبيا، سفارتهم، تطاردهم، وتقتلهم؛ ففعلوا ما يفعل أهل تلك البلد، وأخذوا إذنا بالتظاهر أمام سفارتهم الليبية العربية المسلمة، وذلك بحماية الشرطة الإنجليزية الصليبية. وكان لهم ما أرادوا، واجتمعوا هناك، أمام سفارة بلدهم!
الدبلوماسية الليبية الثورية الهكسوسية، وبإيعاز من عميدها، صعلوك جهنم، خرجت في ذلك اليوم المشئوم على العالم بأحدث إبداعاتها الدبلوماسية، ألا وهو إهالة الرصاص من مكتب السفير الليبي، ومن تحت راية العلم الجماهيري الأخضر الخفاق، والمبشر بالانعتاق النهائي للبشرية كلها، وقتل الدبلوماسيون المغاوير المتظاهرين وحراسهم على حد سواء، وانجلي المشهد على مجزرة لندنية نهارية أمام سفارة الجماهيرية، وفي قلب المشهد الفظيع المريع المخزي شرطية انجليزية شابة تتخبط في دمائها، ثم تموت، لينتصب في مكان ذبحها نصب تذكاري، سيبقى أبد الدهر شاهدا على مخازي القذافي، وجنوده الهكسوس الأنذال!!!
اتسعت بعد هذا الحادث دائرة الخوف والرعب من بؤرة الإرهاب الدبلوماسي الليبي، وأصبح المار من على بعد مسيرة يوم من المكتب الشعبي بلندن، يشم رائحة الرصاص والدم، وغدا مجرد ذكر هذا المكتب مما يبعث الفزع والرعب في نفس كل ليبي هناك.
الأستاذ الناكوع يقيم في بريطانيا، وربما في لندن، أو قريبا منها، ولكنه لا يمكن له، أو لغيره ممن هم في مثل وضعه، أن يفكروا مجرد التفكير في المرور قرب ذلك المكان الكابوس، فآثر الأستاذ الناكوع أن يحارب ذلك الوكر ومن فيه بلغة عجز النظام الجماهيري البديع عن فهمها والتعامل بها، ألا وهي لغة الكلمة.
إنني لا أريد يا أستاذ محمود الناكوع أن أهنئك لأنك أصبحت سفيرا، فذلك أمر لا يسعدني كثيرا. إن الأمر الذي يسعدني حقا ويذهب غيظي، هو أن الله أمد في عمرك، وأراك في الظالمين ما كنت تود أن تراه؛ وفتح الله لك حصنهم المنغلق العقود الطوال، ومكنك من الدوس على رايتهم، والجلوس على مكتب حوى ذات يوم ملف تصفيتك أنت ومن هم على شاكلتك من اللاجئين الليبيين.
حاول، أيها السفير، قدر المستطاع أن تطهر ذلك المكان، سفارة ليبيا، من رجس ودنس الهكسوس، وتمسح من ذاكرة المكان والزمان والإنسان ما فعلته تلك العصابة باسم كل الليبيين، وقل للجميع هناك إننا نحن الليبيين برءاء مما فعل الظالمون.
اكتب، يا سعادة السفير، وفي زاوية ما من النصب التذكاري للشرطية فلتشر عبارة مفادها: إن الرصاص الذي قتلك يا فلتشر لم يخرج من السفارة الليبية الممثلة لليبيين، وإنما خرج من صدور وقلوب عصابة اختطفت ليبيا عقودا وطويلة، وهي، وكما قتلت هناك في أرض الانجليز، وأسالت دما بريئا، فإنها تفعل الجرم نفسه، وعلى مدى العقود، في أمكنة كثيرة، في مقدمتها بالطبع ليبيا.
كأنني أسمع ذلك المكان؛ حجره، وشجره، وكذا ذلك النصب التذكاري لتلك الشرطية المغدورة، وأرواح المقتولين ظلما بأيدي الهكسوس، وهم يرتلون بصوت واحد " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون".
أيها الطاغية القذافي: ألم تر أن كل شيء يثار منك؛ الزمان، المكان، الحجر، الشجر، أرواح ضحاياك من كل لون وجنس ودين.
أين المفر وقد استعديت أيها الظالم سنن الله، وما استقر في عقول الناس من أعراف وأصول وقيم ومثل.
إذا ما مارست، يا صعلوك جهنم، ذكاءك وقوتك ومكرك وفررت من كل هؤلاء، فمن ذا ينجيك من روح رجل مسلم متوضئ متعطر قابل، للتو، ربه في بيته، وخرج من عنده فرحا مسرورا بحسن لقائه له، عاقدا العزم على معاودة الزيارة الربانية في الجمعة اللاحقة، لولا أنك تدخلت أيها الظالم، بين العبد وربه، والحبيب وحبيبه، وقمت بإلغاء هذه الزيارة، ثم أجلتها عدوانا وظلما إلى يوم القيامة!
هب، أيها الغادر، أنك فررت من كل ذلك، فماذا تقول للشرطية الانجليزية البريئة التي لم ترتكب جرما سوى جرم حماية من ولاك الله أمرهم، وألزمك صونهم ورعايتهم، وإذا بها، المغدورة، تكافئ على ذلك العمل النبيل بما لا تتوقعه أبدا، القتل. إن المسكينة قتلت بطريقة ما كان لها أن تتخليها حتى في أبشع كوابيسها، فاختلطت عندها، مرارة سكرات الموت بمرارة فضولها الذي لم يُلبّى، لمعرفة اليد التي ذبحتها، في أأمن مكان، وبين زملائها، وأمام سفارة دولة. ولكن أي دولة، إنها دولة الهكسوس!!!!!!!!
لا حول ولا قوة إلا بالله.
محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق