حمزة، ومحمود الورفليان، إناءان بما فيهما ينضحان
حمزة التهامي الورفلي، ومحمود عبد العزيز الورفلي، ليسا، على حد علمي، إعلاميين، وإنما كلاهما متطوعان في الجبهة الإعلامية لجيشين متحاربين؛ أحدهما يقوده دكتاتور مٌعمِّر، اسمه القذافي، حكم ليبيا بدون انتخاب، أو مبايعة اثنين وأربعين عاما، لا غير، وسنده غير الشرعي الذي يستند إليه في إشعال هذه الحرب هو إمهال الله له، واستحواذه على حكم شعب خمسين عاما إلا ثمان سنوات. وأي ضير في منحه ثمان سنوات إضافية، ليتمكن من الاحتفال بالعيد الخمسين لتوليه عرش قهر الليبيين!
على هذا الأساس قرر القذافي خوض حربه المقدسة، والمضي فيها حتى اكتمال دائرة مجده بإكماله خمسين عاما من الحكم، واحتفاله بعد ثمان سنوات بالعيد الخمسينية، وإحرازه التاج الجماهيري الذهبي.
من تُراه يستطيع إدارة حملة إعلامية لعمل سياسي وعسكري بهذا الحجم، سيما أن هذا العمل ليس له من الشرعية ولا القبول شرو نقير، ولكن فارس الفرسان، حمزة، قبل الرهان، وجرد حسامه، وأعلن على الملأ أنه، وكل قبيلته وقود لهذه الحملة؛ إذ لا شيء أغلى من رضاء القائد، ورؤيته، ومِن حوله أبناؤه، يحتفلون بختام عهد الجماهيرية الأولى، وولوج عصر الجماهيرية الثانية، ودماء الليبيين تجري من تحت أقدامهم وديانا!
أما الورفلي الثاني، محمود، فهو الآخر متطوع لإدارة حملة، ولكنه في الجبهة المقابلة، والتي تشكَّل جيشها منذ وقت قصير جدا، وليس لهذه الجبهة من شرعية تستند إليها في محاربة خصمها، الدكتاتور المعمِّر، وملك الملوك، ومالك المليارات، وصاحب الجيوش الجرارات، سوى أن هذه الجبهة اصطفت في ساحتها الواسعة الجموع الشعبية صفا واحدا، ونادت بصوت واحد: الشعب يريد، إسقاط حكم العقيد، غير الرشيد.
الجيش الأول الذي يجعجع له حمزة، هدفه الوحيد الوصول إلى العيد الخمسينية للجماهيرية الأولى، وزفّ العريس، الدكتاتور البئيس، إلى الجماهيرية الخمسينية الثانية، ولو تكلف ذلك محصول الخمسين سنة الفائتة من وقت عمر جماهير الجماهيرية الأولى، بالإضافة إلى آلاف القرابين، من الليبيين، من ذوي الفئة الشعبية الرخيصة.
مهمة حمزة ليست بالأمر السهل، ودليل ذلك انسحاب كل الفرسان الإعلاميين الذين كانوا يصولون ويجولون ويتزاحمون على أقرب مكان يؤدي إلى الوجاهة والظهور، وهو شاشة التلفزيون، والذين كانوا يبذلون كل ما لديهم من إبداع موهوب، وآخر مرغوب، وفي حدود ما يسمح به الإيقاع البطيء الرتيب للآلة الإعلامية الجماهيرية الصدأة العتيقة.
فجأة حمي الوطيس، وتصاعدت وتيرة إيقاع دواليب الآلة الإعلامية، فتآكلت وتساقطت تروسها المتهالكة، ووجد فرسانها التقليديون أنفسهم، أمام منازلات إعلامية شرسة لا عهد لهم بها، فسقطوا جميعهم في المضمار، وخلا المكان، وساده جمود وصمت، كأنه الموت!
وهنا برز الفارس حمزة، وآخرون من أشباه حمزة!
إن ظهور حمزة، في لحظة الصمت، وأجواء الموت، ليس له من تفسير سوى إن هذا الكائن، حمزة، عبَّ من ذات كأس التكبر والعناد، والتسلط والاستبداد، والظلم والفساد، الذي يعبُّ منه حاكم البلاد، حتى امتلأ جوفه وتحامل، وظل ينضح بما حواه من ترهات، وأكاذيب ومغالطات.
لماذا أتى حمزة في هذا الوقت العصيب؟
لماذا لم يتوجس خيفة من خلو المضمار من كل فرسانه السابقين؟
لماذا يطلق العنان للسانه حتى كاد أن ينفلت من بين فكيه، ويطير بعيدا عنه؟
لماذا يراهن على جواد، يراه بأم عينه يكبو ويتعثر، بل إنه خارج مضمار الزمان والمكان؟
يقول أحد الفلاسفة: إن الناس يولدون أحرارا، فيستعبدهم عنادهم!
انتشي، ذات ليلة، حمزة بكأس العناد، حتى إنه امتشق سلاحه، وسجل سابقة إعلامية، تؤكد عناده المرضي الذي لا شفاء منه، بل إن عناده استعبده وأخذه بناصيته ووضعه تحت القدم، وأي قدم!
وليلة أخرى، يسكر حمزة من نفس كأس عناده، حتى إنه يقف مهددا باجتياح مدينة، وقتل من فيها، وهو يعلم أن عملا كهذا، قاد مذيعا محرضا مثله إلى محكمة الجنايات الدولية، عندما تسبب هذا التحريض في الحرب الأهلية التي دارت في رواندا، ومات جراؤها قرابة المليون من البشر.
حجة المعاند دائما ضعيفة، ولذلك يحاول تعويضها بأشياء تسندها، ولم يجد حمزة من أشياء تسنده، في معركته الأخيرة الخاسرة، سوى ما وجده متناثرا في المضمار المهجور من بقايا بخور، وتراتيل وثنية كانت تتلى ليل نهار عند أقدام هبل، فالتقطها حمزة بسرعة، وأدخل عليها بعض التعديلات الضرورية التي، ويا لخيبة حمزة، لم تفعل شيئا سوى إنها عملت على تثبيت الألوان المستفزة للمشهد الدكتاتوري القبيح، وكذا تعميق ندوب وشروخ وجه هبل المتآكل المتساقط.
حمزة آخر كهان معبد هبل، يفتتح حديثه ويختمه بتأكيد علاقته، وكذا علاقة إلهه هبل بالسماء، ويؤكد ذلك بعديد المعجزات والخوارق، والتي أهمها؛ أن السماء مكنت لهبل في الأرض، وملكته بلدا أربعة عقود، بل أوصلته إلى مرتبة ملك الملوك، وهي، أي السماء، لن تبخل على محبوبها، هبل، بالخمسينية التي يريد.
ومما يزيد حمزة يقينا في الظفر بالخمسينية، ومن بعدها المئوية، ما يلتقطه في كل ليلة من دعوات العجائز، ونبوءات الدراويش، الذين يخصهم حمزة بالجزء الكبير من الهواء المهدور، وما يتمتم به من طلاسم وأقاويل زور.
أهم ما نضح به إناء حمزة مؤخرا، وهو في ذروة الانتشاء، هو إعلانه أمام سكان الأرض، وملائكة السماء، بأنه، أي حمزة، هو "جزمة" القذافي.، وأضاف بأنه يعتز بذلك ويفتخر!
لا شيء آخر، بعد الجزمة، يضيرك يا حمزة، فقل ما شئت!
أما محمود الورفلي، الفارس الإعلامي في الجبهة المقابلة، فهو الآخر ينضح بما حواه إناه الذي امتلأ من صنوف الاضطهاد، وأنواع الظلم والاستبداد، والغربة والإقصاء والإبعاد. وأول ما ينضح به هذا الإناء، هو نبرة صوت محمود، وما تعتريها من بحة تعبر أصدق تعبير عن محتويات جوف الرجل، وما يعتمل داخله من شعور بالغبن والقهر والظلم، فلا تجد أذن السامع وفؤاده من بد إلا أن يستجيبا كلاهما لصدى هذه التراجيديا الذي، وإن أطلقته حنجرة مواطن ليبي واحد اسمه محمود، إلا أنه، الصدى، صوت يتدفق من كل حناجر الملايين التي جرعها الاستبداد كؤوسه المريرة، وألقمها غصصه الكبيرة الغزيرة.
وتأسيسا على ما ذكرت لا يبذل السامع كبير جهد في معرفة الفرق الجلي، بين صوت حمزة النشاز الرديء، وصوت محمود الرفيق الندي، ذلك أن نبرة صوت محمود وبحته الخفيضة الرفيقة الراجية الحانية الملتمسة، تصنع كونتراست صوتي عميق بينها وبين ما تقذف به حنجرة حمزة من قذائف نارية، تثقب طبلات الآذان، وتقشعر من وخزها الأبدان.
محمود الورفلي لا يمتشق بندقية كبندقية حمزة، ولا في وسعه أن يصدر أوامر لكتائب جيش، كي تقتحم مدينة وتدكها على رؤوس ساكنيها، ولكن كل ما يملكه، محمود، أرشيف من صحائف سوداء، لحاكم مستبد، ما إن يقرأ الحرف الأول من كل صحيفة حتى يكمل كل من يسمعه، بقية ما تحويه تلك الصحيفة من عمل مريع فظيع، يشيب لهوله الطفل الرضيع.
لا يبذل محمود كبير جهد في استمالة مشاهديه، ولا يجهد حباله الصوتية في شد آذان وقلوب مستمعيه، وذلك لسبب واحد بسيط، وهو إتيانه بالدليل قبل أن يطلب منه سامعه التدليل، ثم لا يجد السامعون بعد ذلك بدا من التأمين على دعائه، وربما مشاركته شجنه وبكاءه.
ليس في إناء محمود من مخزون شتم وسباب، مثل ذاك الذي لدى حمزة، والذي يعتبر بحق موسوعي في الكلمات الوحشية الجافية، والعبارات الرخيصة النابية، وهو تحد قابله محمود بما يملك من كلمات ترفق واستعطاف، وألفاظ رجاء ودعاء واستلطاف، وهي كلمات تضيف إلى ما فيها من وجدانيات، كونها جديدة على مسامع الليبيين الذين أجبروا طوال العقود على سماع حمزة وأشباهه، وما يتقيؤنه مما غلظ وجفا، وسفَّ ونبا، من منتجات الإعلام القذافي الرخيص، والذي شاء القدر الحكيم أن يكون حمزة هو المسمار الأخير، في نعش النظام الرديء الحقير.
على خلاف حمزة الذي ينظر إلى الخلف ويبكي على الأطلال، فإن محمود يستشرف الآفاق، ويتطلع إلى مشرق شمس عهد جديد، ما إن يذكر بعض علاماته وملامحه، حتى تتجاوب معه أفئدة جموع المنتظرين المتلهفين إلى يوم الاحتفال بعيد انعتاق الشعب، كل الشعب، وليس الاحتفال بعيد تمجيد وتنصيب فرد واحد تكرر أكثر من أربعين مرة، وها هو يناضل من أجل تلوين كل أيام الزمن بلون فرحته وسعادته هو وعائلته وجوقته وعصابته، وجرِّ الناس إلى تلك الحفلات مجبرين مكرهين، وربما باكين.
وإذا حاولت أن ألخص وأختزل الفرق بين الرجلين، حمزة ومحمود، وما ينضح به كأسهما، فإنني لا أجد صعوبة بأن أقول إن محمود الورفلي لم يتكلم باسم قبيلته، ورفلة، أو يهدد بها، أو يبتزها ويبتز بها قط. بينما نجد على الجهة الأخرى ابن قبيلته حمزة الورفلي، ومن هم على شاكلته، والذين أسرفوا في ذكر ورفلة، بمناسبة وبغيرها، حتى جعلوها فزاعة، محذرين ومنبهين الجميع بأن عدد سكانها يقارب المليونين، وأن ورفلة كلها، على رأي حمزة وأشباهه، لا ترتضي بغير قاتل شعبه حاكما وحيدا ودائما لهذا الشعب الليبي المغدور.
كل يوم يسجل حمزة أهدافا في مرمى قبيلته، ليصنع بهزيمتها على يديه نصرا ومجدا للقذافي.
وفي كل يوم يسجل محمود عبد العزيز الورفلي أهدافا لصالح قبيلته ليبيا ولمجدها.
المجد والخلود للشرفاء.
والخزي والعار للجزم.
محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com
هناك تعليق واحد:
أجدت والله في التعبير كما عهدتك يا أخي ..وإني أعتبرك أحد ثلاثة كتاب هم فرسان المقالة اليوم في ليبيا ، والآخران هما علي المجبري و حمدي الزايدي ، وقد سبق لي التنويه بهما في صحيفة (الوطن ) العام الماضي ..وإني لأرفع قبعتي تحية لكم .. ولكني لم أر أي مقال لحمدي منذ اندلاع ثورة فبراير وان شاء الله المانع خير .
إرسال تعليق