الأربعاء، أكتوبر 12، 2011

رمادي

                     ** رمادي **

اللون الرمادي، كما هو معروف، هو اللون الواقع بين اللون الأبيض المشرق المعروف، واللون الأسود بقتامته المعهودة. أما الرمادي الذي يعنيه عنوان هذا المقال الحواري، هو نموذج بشري أفرزته حقبة القذافي السوداء، وذلك  بسبب ما جرت في هذا العصر من ممارسات ظالمة طال بأسها أفئدة الناس وعقولهم، فظهرت منهم أنواع وأصناف جديدة، من بينها ذلك الشخص الرمادي الواقف دائما في المنطقة الحدودية بين القوى المتصارعة، وهو بموقفه هذا يحرص على أن يكون في حالة تربص من شأنها أن تساعده على التقاط الفرصة واصطياد الغنيمة.

طبقة الرماديون بطبيعتها الانتهازية النفعية، هي دائما على استعداد بأن تتعاطى مع أي وضع، واضعة منفعتها ومصلحتها الضيقة الآنية فوق أي مصلحة، ولو كانت مصلحة الوطن العليا.

ولأن في الأنظمة الدكتاتورية، كنظام القذافي المنهار، تتركز كل المنافع والمصالح في خزائن الدكتاتور وعصابته، تجمع الرماديون الليبيون حول القذافي وعائلته وحواريه، وركنوا إليه، حتى وصل بعضهم إلى الدوائر القريبة جدا من حمى الخيمة سيئة الصيت، متخذين لشخوصهم الرمادية مسميات مختلفة، مثل الأمناء، ورؤساء الأجهزة، ومدراء الشركات والمؤسسات والهيئات، وغيرها.

أنانية الرمادي وإمعته مسخت ذاته، وجعلته مجرد آلة صماء يستخدمها كل من أمسك بها وفق ما يريد، وفي الاتجاه الذي يشاء، ولكنه وبمجرد فقدان السيطرة على هذه الآلة تتحول إلى آلة ضده، وبمعنى أدق ليس في نفس الرمادي ميزان يقيس به الأمور، فيتبع أقومها، ويترك أرذلها، بل إنه يحمل بوصلة يتجه مؤشرها دائما نحو منفعته الشخصية الضيقة. 

المئات وربما الآلاف من الرماديين ساهموا بطريقة أو بأخرى في إفساد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيما مضى، وهم سيلعبون الدور نفسه، لو لم يتم رصدهم والعمل على إعادة تأهيل من به بقية من صلاح منهم، وطرح من تشربت نفسه النفاق، وران على قلبه الغش والخداع.

وفي هذا الحوار يفترض كاتبه قيام الجهات المختصة برصد أحد الرماديين والتحفظ عليه. ولأن هذا الرمادي وصل غرفة التوقيف متأخرا، قرر ضابط التحقيق استجوابه عند الصباح.

أمضى الرمادي تلك الليلة وحيدا، وانهالت عليه الوساوس والخواطر، فقضى الليل كله يسائل نفسه، مستفهما منها تارة، ولائما لها أخرى، مدونا كل ما طرحه من أسئلة، وما ردت به نفسه من أجوبة عليها.

وعند حلول الصباح، وشروع الضابط بالتحقيق مع الرمادي المتهم كما كان مقررا، سارع الرمادي بتقديم محضر استجوابه لنفسه إلى الضابط، فاستغرب منه الضابط ذلك، ولكن ما إن اطلع الضابط على المحضر حتى أعجب به ووقع عليه واعتمده.

ومكافئة للرمادي على ما قدم من عمل، وما حواه تحقيقه مع ذاته من شفافية، واعتراف بالخطإ، وندم عليه، دعاه الضابط إلى مشاركته وجبة إفطاره، مستبدلا جلسة التحقيق بجلسة إفطار رومانسية وادعة. 

وتعميما للفائدة، وتكريسا لقواعد الديمقراطية، وتفعيلا لمبادئ الإعلام الراشد، أمر الضابط الرشيد بنشر نص المحضر في وسائل النشر المختلفة، مؤملا من كل رمادي آخر أن يفعل الفعل ذاته، ويقوم بمسائلة نفسه، والتحقيق معها، متخذا من محضر محاورة الذات ومساءلتها المذكور، وسيلة إيضاح له.

وفيما يلى نص هذا المحضر كما نشرته مدونة ربيع ليبيا:

ــ هل أنا رمادي؟
ــ نعم

ــ لماذا؟
ــ لأنني لم أكن من ضمن عشرات آلاف القتلى والمفقودين والجرحى.

ــ ربما كنت معهم، وحاولت أن تفعل ما فعلوا، ولكن الله حفظك.
ــ كلا.

ــ ربما منعك مرضك، أو كبر سنك عن ذلك.
ــ كلا.

ــ ربما سارعت وكنت أحد أعضاء المجلس الانتقالي، أو التنفيذي، أو ما شابههم، واكتفيت بدورك السياسي أو الإداري.
ــ كلا.

ــ ربما كنت من أصحاب الملايين الذين أنابت عنهم ملايينهم في مجهود المعركة.
ــ كلا.

ــ ربما كنت ممن قدموا معونات عينية، أو ممن انخرطوا في العمل الخيري.
ــ كلا.

ــ ربما قفزت إلى أحد المنصات الإعلامية، وأسرف فني الماكياج في تلميع صورتك.
ــ كلا.

ــ أتعبتني حقا. ألا تقل لي من أنت، وأي عمل عملته حتى جعلك تحتفظ بوظيفتك ومركزك السابقين؟
 ــ أنا رمادي قديم مخضرم، كما تعلم، ولم أفعل شيئا سوى أنني قمت بالانشقاق عن النظام السابق في الوقت والزمان المناسب جدا.

ــ وبذا لم تخسر وظيفتك وامتيازاتك السابقة. أليس كذلك؟
ــ بلى، فالرماديون حاذقون، ودائما لا يخسرون.

ــ ألم تقل إنك أعلنت انشقاقك، وتخليت عن وظيفتك المرموقة السابقة التي كانت تفيض عليك بالكثير مما يعرفه الناس، والأكثر الذي لم يعرفوه؟
ــ أجل، ولكنني قدمت وظيفتي تلك التي انتهت صلاحيتها، لأستبدلها بأخرى جديدة أحسن منها.

ــ عجيبون أنتم أيها الرماديون الحذاق. خبرني عنكم أكثر؟
ــ نحن الرماديون يجمعنا معبد المصلحة المقدس، حيث نمارس فيه طقوسنا المنتظمة الثابتة.

ــ ما هي أهم طقوسكم؟
ــ من أهم طقوسنا الوقوف دائما إلى جانب الأقوى والأكثر نفعا لنا، حتى إذا شعرنا بتغير الموازين، قمنا على الفور بتغيير أماكننا، والوقوف في المكان الجديد، وهو بطبيعة الحال الأجدى والأنفع لنا.

ــ وماذا أيضا؟
ــ نحن الرماديون يغلب علينا الصمت.

ــ وماذا لو طلب منكم الكلام؟
ــ غالبا ما نلجأ إلى المعاريض، فكلامنا دائما حمّال أوجه.

ــ ذلك عن الكلام، وماذا لو طُلِب منكم الفعل؟
ــ نستخدم ذكاءنا المعهود، ونفعل ما يُطلب منا، ولكن من وراء دروعنا السميكة، وعصينا الذكية الطويلة.

ــ كأنكم بهذا تسكتون عن الحق، وتوسوسون بالشر!
ــ أجل نفعل ذلك ولكن بمهنية وتفنن.

ــ وهل نفعتكم هذه التقنية، وأفادتكم فنونها؟
ــ أجل. ألم تر أننا باستخدام هذه التقنية تحصلنا على نصيبنا من كعكة سبتمبر، وها نحن نقطف ورد فبراير بعد زوال شوكه. والأمثلة الحية على ذلك أكثر من أن تحصى، ذلك أن الكثيرين ممن ركبوا موجة فبراير، كانوا جنودا مخلصين للقذافي ونظامه، ولم يعرف عنهم يوما مجرد ضيقهم بما يفعل القذافي من موبقات، ولم يسجل لهم اتخاذ أي موقف يعبر عن ذلك.

ــ ولكنكم بذلك تفعلون فعل الشياطين.
ــ ماذا تعني؟

ــ أقصد التغرير بالآخرين ودفعهم لارتكاب ما تريدون؟
ــ ذلك لأننا وجدنا عند الآخرين الاستعداد لفعل ما يوكل إليهم من أفعال.

ــ ربما فعلوا ذلك لعدم توفر القدوة الصالحة فيكم.
ــ حقا لم نكن قدوة صالحة.

ــ ولكننا لم نر لكم أيضا موقفا إزاء ما يجري أمامكم من منكر ظاهر.
ــ لسنا مسئولين على كل ما يجري أمامنا، كما أن كثيرا مما يجري لا ندري به.

ــ ههه. كيف لا تدرون، والقتلة والمجرمون المأتمرون بأمر القذافي يجاهرون بكل ما يفعلون، ويستلمون الأوسمة عن كل ما يقترفون؟

ــ أيا كان الأمر، فذلك شأن الظلمة والقتلة ومسئوليتهم، وليس شأن الرماديون، فما من رمادي، كما هو معروف، تم ضبطه متلبسا بالجرائم التي ذكرت.

ــ ربما يكون هذا صحيحا، ولكن ما من رمادي إلا وصانع ظالما وركن إليه، ولولا ركون الرمادي وممالاته للظالمين الظاهرين لم يكن ليرشح لأي منصب؛ فكل مدير سابق لمصرف أو مرفق مالي إلا واقترحه وزكاه صالح إبراهيم، وكذا ما من مدير نافذ في قطاع الاستثمارات الخارجية إلا وباركه وقدمه محمد الحويج، وكذلك ما من مدير لمؤسسة تعليمية كبيرة إلا وأحمد إبراهيم هو من اقترحه وفرضه، وهكذا مع بقية القطاعات. هذا بالإضافة إلى التزكية والتعميد المعروف من قبل مكتب اللجان الثورية، أو قلم القائد الفار، أو غير ذلك من محطات تفريخ الرماديين الكثيرين.
 ــ أجل، فكل من اعتلى منصبا مرموقا في نظام القذافي من المناصب التي ذكرت كان ضمن هذه القائمة، أعني قائمتنا نحن الرماديين.

ــ وماذا تقول في ذلك. أعني الركون إلى أركان النظام السابقين الظالمين، وخطبة ودهم، وتنفيذ أوامرهم وتوجيهاتهم؟
ــ نعم فعلنا ذلك، ولكننا كنا نعرف من أين تؤكل الكتف.

ــ ماذا تعني؟
ــ أعني أننا نظهر لهم الطاعة، ونسرف في إطرائهم، ولكننا لا نفعل كل ما يريدون.

ــ أليس هذا ضربا من الخداع، وإخلالا بواجب الوظيفة؟
ــ بلى، ولكن هذا سلوك شائع كما تعلم، وهو ما يعزى إليه تدهور الأوضاع السابقة وانهيارها لاحقا.

ــ هذا مرعب. ولكن هل سيبقى الرماديون، وأنت منهم، على هذا الحال في عصر فبراير الجديد، فيتدهور وينهار كسابقه؟ 
ــ أخفتني!

ــ لماذا؟
ــ لأنني أحسست بأنك تقصدني، فأنا كما تعلم كنت مديرا لمؤسسة مالية في زمن القذافي بتزكية من صالح ابراهيم، وها قد تمت تزكيتي من قبل أحد أصدقائي بالمجلس التنفيذي، وتم تكليفي بالمهمة نفسها في عصر ثورة فبراير المجيدة المباركة المعظمة الرائعة الفريدة الـــــــــــ .........!

ــ لم تنس عادتك السابقة في التطبيل والتزمير!
ــ أعتذر، فالطبع يغلب التطبع.

ــ عجبا تعتذر عن التزمير والتطبيل، ولا تعتذر عن لونك الرمادي المزعج، وعادتك السيئة في التسلق والتملق!
ــ كيف أعتذر عن التسلق والتملق، وهما صفتان أساسيتان في كل رمادي مثلي!

ــ هل تعني أنك ستظل على حالك الرمادي هذا، حتى بعد زوال عصر القذافي الأسود، وقدوم زمن فبراير الأبيض الشفاف؟
ــ ليس لي من حل، ذلك أن نزع جلدي الرمادي، واعتزالي التملق والتسلق بعد هذا العمر الطويل، يعني إقدامي على توبة لا يمكن تحققها إلا بالتكفير عما أذنبت، والتضحية بما كسبت، وقبل كل ذلك الندم عما اقترفت.

ــ ذلك خير لك وأفضل. لا سيما وأنك بلغت أشدك وبلغت الأربعين، لا بل ربما جاوزت الخمسين من عمرك، فضلا عن وضعك المادي الممتاز.
ــ هذا صحيح، ولكنك تعلم النفس البشرية وضعفها، وأنها في أحيان كثيرة  ينفع معها الردع أكثر من الوعظ.

ــ ماذا تقصد؟
ــ أقصد أن ما قامت به ثورة فبراير من تساهل مع الرماديين مثلي، وأحيانا حتى مع السود، واكتفائها بمجرد إسداء النصائح، لأمر مغر لي ولأمثالي على مزيد الاحتفاظ بهذا اللون الرمادي اللعين.

ــ عجبا. كيف تلعن نفسك؟
ــ بدأت أشعر بوخز الضمير.

ــ حقا. وماذا بعد؟
ــ سأتوب عن كل ما اقترفت، وسأقوم بكتابة صحيفة اعتراف، أظهر فيها لوني الرمادي كما هو، واضعه أمام من رشحوني من رجالات فبراير، وأترك لهم بعد ذلك قرار تثبيتي أو خلعي.

ــ هذا موقف تشكر عليه، وسيسجله التاريخ لك. ولكن ماذا عن الرماديين  الآخرين الذين لا يمتلكون شجاعة مواجهة أنفسهم مثلك، والاعتراف برماديتهم اللعينة، والتبرؤ منها وخلعها؟
 ــ لا أدري، ولكنني أدعوهم إلى أن يفعلوا الفعل الذي فعلت، فإما مَنٌّ بعد وإما قصاص.

ــ وماذا لو لم يفعلوا، وبقوا سوسا ينخر ثورة فبراير، كما نخروا من قبل ثورة سبتمبر؟
ــ عندها سأقترح على من يهمه الأمر، الأخذ بزمام المبادرة، والقيام برصد هذه الحالات، والتعامل معها على أنها سوس يجب محاربته، وتنظيف جسم فبراير الناصع النظيف منه.

ــ هذا عمل رائع، ولكنه سيبقى مجرد أمنية ما لم توضع له آلية لتطبيقه وتنفيذه.
ــ أنت محق، ولذلك أقترح القيام بإلزام كل من تولى منصبا أو وظيفة مرموقة في العهد الدكتاتوري المقيت، أن يملأ استبيانا يقوم ذوو الخبرة والدراية بتحريره، آخذين في اعتبارهم قيام هذا الاستبيان بكشف وتعرية الجذور الرمادية العميقة لكل من شملتهم القائمة الرمادية.

ــ وماذا بعد؟
ــ ليس هناك من بعد، سوى توبة نصوحا كتوبتي، أو لا، فليس للسوس من دواء، سوى إبعاده عن أساسات البناء. 

محمد الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: