الاثنين، أكتوبر 17، 2011

نيران شقيقة


                        نيران شقيقة

النار الشقيقة في ليبيا هذه الأيام نيرانان؛ نيران خشنة ساخنة، تضطرم وتتأجج بالبارود، وتقذف حمما من رصاص وشظايا.

وأخرى نار ناعمة، ولكنها أشد وأكثر ضررا من الأولى، وقودها شح الثقة في الآخر الشقيق رفيق السلاح، ومقذوفاتها كلمات وتصريحات نارية حادة، وتكتلات شللية ضيقة، وممارسات قبلية عصبية، ووصاية وتسلط، وربما نكوص وعودة إلى ارتكاب المعاصي ونكران نعمة الرب الذي نصرنا، وغير ذلك من أفعال سيئة.

لم نعان بفضل الله من النيران الشقيقة الخشنة، باستثناء ما نعانيه الآن من نزق بعض مطلقي الرصاص في الهواء، والذين لم تفلح معهم تحذيرات المسئولين ولا فتاوى المفتين في الإقلاع عن سلوكهم القاتل.

حدثني بعض المختصين بأن سرعة الرصاصة وهي ترتطم بالأرض بعد بلوغها أقصى مدى في السماء، يكاد يساوي سرعتها وهي منطلقة من البندقية تجاه هدفها المقصود.

في مدينة آهلة مزدحمة، كطرابلس، تزداد درجة احتمال مصادفة الرصاصة الساقطة جسم إنسان ما، بل ربما بلغت هذه الدرجة حدا بات من الضروري معه على كل من يتوخى السلامة ارتداء واق من الرصاص وخوذة ميدان!

القصص الكثيرة التي نسمعها عن ضحايا النيران الشقيقة، المتمثلة في الرصاص المتساقط، بلغت حد التواتر، ولدرجة جعلتني شخصيا أعزف عن المشاوير غير الضرورية، تجنبا لموتة غير مشرفة فوق رصيف بارد.

في فناء بيتي وقعت رصاصة، وصادف وقوعها وجود أحد أفراد عائلتي بفناء البيت، ولم تكن تبعد الرصاصة الساقطة عنه سوى سنتيمترات معدودة.

لم تسجل، على حد علمي، في ساحات الحرب التي خضناها، ولا زلنا نخوض، نيران شقيقة كتلك التي تنطلق الآن بدعوى الاحتفال أو التأبين أو غير ذلك من الأسباب التي لا تبرر بالقطع قتل إنسان غافل بريء، وهو يسير في الشارع، أو يسعى وراء رزقه، أو حتى وهو جالس في فناء بيته.

جريمة إطلاق الرصاص في الهواء، باتت من الجرائم المكتملة الأركان، وذلك  بما فيها من تعمد وانتفاء غفلة وجهالة لمرتكبها، وخاصة بعدما علم الجميع بضرر هذا الفعل، وكذا من بعد صدور فتوى بضرورة أداء كفارة القتل الخطأ تحرزا، لكل من تورط في إطلاق الرصاص بغير سبب في مكان آهل، وذلك لوجود شبهة وقوع القتل الخطأ جراء رصاص المنفلتين.

الكثير من مطلقي الرصاص يفعلون ما يفعلون، ويمارسون لعبة الموت ضاحكين، ولا يدري أولئك النزقون الطائشون أن ضحاياهم، وعلى بعد أمتار منهم، سكرات لعبة الموت يكابدون.

إن استمرار سماع دوي إطلاق الرصاص في المدن يعني مزيد استمرار صدور شهادات سوء السيرة وذهاب العقل لأولئك المحسوبين على فئة الثوار. وعلى الثوار الراشدين الذين تهمهم سمعتهم التحرك سريعا لضبط هذه العناصر الضارة المنتشرة بينهم، وتقويم سلوكهم، تفاديا لأخذ المجموع بوزر الأقلية.

كما أقترح على الجهات المعنية القيام بحث المواطنين على تزويد الجهات المختصة بحالات إطلاق الرصاص، وذلك من خلال غرفة متابعة لهذه الجريمة، يتم التواصل معها عن طريق أرقام هاتفية مدفوعة الكلفة، يبلغ خلالها المواطن العادي عن كل حالة من حالات النيران الشقيقة، لتقوم الغرفة برصدها والتعامل معها.

ذلك عن النيران الشقيقة الخشنة، أما ما يتعلق بالنيران الشقيقة الناعمة، والتي تصب حممها هذه الأيام عبر التصريحات النارية المهلكة، والمقالات المسمومة، والتعليقات غير المسئولة، فهي جميعها نيران يتبادلها الآن أشقاء الأمس الذين كانوا في خندق واحد يمارسون حربهم الإعلامية والسياسية المقدسة ضد عدوهم المشترك.  

أتساءل دائما متعجبا عن توقيت إطلاق هذه النيران، وأتساءل مستغربا كيف لا يمنح الشقيق شقيقه الفرصة الكافية للرد عن تساؤلاته وانتقاداته، وذلك قبل المسارعة بقذفها عبر ماسورة مدافع الإعلام المتخصصة في تضخيم كل قنبلة إعلامية وسياسية أضعاف حجمها الذي ولدت به.

لقد أحبطت، وأحبط الكثيرون مثلي، وهم يرون ويسمعون أشقاء الأمس القريب وقد أصبحوا أعداء اليوم.

المعركة لم تنته بعد، والجبهة الداخلية لا تزال هشة، ومن شأن هذه النيران الناعمة الشقيقة أن تفعل الأفاعيل في أنفس الناس ومعنوياتهم.

لا تفسدوا علينا فرحتنا بالخلاص من قيود وأغلال الدكتاتور التي طال بأسها كل الليبيين، والتي لم نصدق بعد أننا تخلصنا منها، وذلك بما تقومون به من أعمال أحسن ما توصف به أنها في غير وقتها.

دعونا نستمتع بشهر عسل الخلاص، ولو دفعكم هذا إلى مجاملة بعضكم بعضا ومسايرته في طريقة تفسير أحد المصطلحات السياسية، من مثل العلمانية، أو الليبرالية، أو غيرها. ذلك أنه مهما تباعدت تفسيرات تلك التعبيرات فإنها لن تلحق بنا ضررا كالذي سيلحق بنا عندما تبتعد قلوبنا عن بعضها، وهي لا تزال تقاتل من يتربص بها، ويغتنم فرصة انسحاب الرماة، وانكشاف ظهر الجيش.

دعونا نستمتع بشهر عسل الخلاص، ولو دفعكم هذا إلى نسيان انتمائكم القبلي، ذلك الانتماء الذي بالأمس القريب جدا هو الذي صنع منه عدوكم أمضى أسلحته، من أجل أن يدحركم به، ولكنه لم يتمكن، وها أنتم الآن وفي غفلة منكم، بل وفي نشوة تغمركم، تفعلون بأنفسكم ما عجز عنه عدوكم.

دعونا نستمتع بشهر الإحساس بلذة شكر الله على ما أنعم به علينا من نصر، يأسنا ذات يوم من تحقيقه، ولا تطلقوا علينا نيرانكم الشقيقة بعودتكم إلى ارتكاب ما كنتم ترتكبون من المعاصي التي أقلعتم عنها ذات يوم عندما كنا نرفع جميعا أكف الضراعة لله، سائلين إياه رفع يد من شحذ سكينه، وكاد أن يهوي بها على رقابنا المكشوفة، لولا لطف الحفيظ الحميد.

دعونا نستمتع بشهر عسل الإتحاد ضد الاستبداد الذي لم نذق يوما طعمه كما نفعل هذه الأيام، ولا تسارعوا بإطلاق نيرانكم الشقيقة المشحونة ببارود الحزبية النفعية الانتهازية، وبما يقوم به البعض من إلقام الناس السم بالملاعق الذهبية للديمقراطية.

هناك أيضا نيران شقيقة أخرى تنطلق من بنادق من نصَّبوا أنفسهم أوصياء وأولياء الجميع، فعقدوا المحاكم وأطلقوا أحكاما مفرطة أساءت للثورة ومبادئها التي قامت من أجلها، أو على العكس نراهم يطلقون أحكاما ميسرة جدا، بل مبرأة، لمن كانوا يوما أعمدة النظام الظالم وأعوانه، وثبتوهم في مناصبهم، وخلعوا عليهم ثقة لا يستحقونها.

كل الذي ذكرت نيران شقيقة منها الخشن ومنها الناعم، ولكنها كلها قاتلة فاحذروها!

محمد الشيباني

ليست هناك تعليقات: