الاثنين، أكتوبر 31، 2011

أكمل القذافي الدائرة


أكمل القذافي الدائرة، وعاد إلى جهنم صعلوكا كما جاء منها!

إنه الإيقاع الدائري لكل شيء؛ فالأرض دائرية وتدمن الدوران، ورحلة التاريخ الطويلة، وما تحمله من أحداث جسيمة هي أيضا ذات إيقاع دائري، حيث نراها تعيد نفسها من حين لآخر، كما أن الحياة كلها، وربما الكون برمته يعزف سيمفونية الدوران البليغة تلك، خاضعا ومنسجما ومتناغما مع الأمر الإلهي المقدس"منها خلقناكم وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى" .. وكذلك " كما بدأنا أول خلق نعيده".

إن معمر القذافي وما حدث له، لا يبعث على الشماتة فيه، بالقدر الذي يدعو إلى الإشفاق عليه، والذهول مما حدث له، وكذا الاتعاظ بما آل إليه.

في مثل هذه الأوقات من عام مضى كان كل شيء في ليبيا مسكونا بهاجس مخلوق من مخلوقات الأرض، اسمه معمر القذافي.

دأب القذافي على طمس حقيقة انتمائه للأرض وتركيبته الطينية في أذهان الناس، وأجبرهم، إكراها أو إغراء، على نزع وحدة المعالجة المنطقية الفطرية المغروسة في عقولهم، واستبدالها بأخرى مزيفة ذات انحراف واختلال كبير، مما أدى إلى قلب ما لديهم من موازين، حتى بات البعض منهم يحسبون أن معمر القذافي هو كائن سماوي، وربما نصف إله.

هكذا كان الحال منذ أقل من عام، أو على الأقل هكذا أراد أن يظهر ذلك الكائن الأرضي البشري المتأله في عيون وأذهان من هم حوله.

وفجأة وبدون مقدمات انتفض ذلك الطين البشري الذي كذب على نفسه وعلى الناس، وارتعش رعشته الأخيرة، ثم تحلل وذاب وتسرب وغاب في طيات التراب الذي جاء منه.

أجل، فبعد أن ظل ذلك الهرم الطيني المتورم صامدا العقود الطوال، سقط سقوطا مدويا، امتدت موجاته الزلزالية حتى طالت كل الصروح الطينية المتورمة الشبيهة به، فسقطت كلها، أو كادت.

في لحظة السقوط تلك، واجه القذافي حقيقته، ووقف، ولأول مرة في حياته، أمام مرآة مصقولة شفافة، وبدا وكأنه لم يكن يملك بلدا، بما فيها وما عليها، ويحكمها وحده أربعين عاما وزيادة.


إن أهم ما يوحي به مشهد سقوط القذافي هو إكماله، مجبرا أو مختارا، الدورة التي بدأها من قريته جهنم، وعلى نفس حالة الصعلكة التي كان عليها إبان خروجه من قريته قبل نصف قرن.

إلى جانب هذه الصورة البؤرية، حوى المشهد البانورامي المريع صورا أخرى ذات دلالات بليغة، ومشاهد دائرية واضحة، نذكر منها ما يلي:

1ــ عودة معمر إلى قريته وحيدا كما تركها وحيدا، تاركا وراءه كل ما بناه من جيش وعناصر أمن وعناصر ثورية وغيرهم، والذين ربما يفوق عددهم المائة ألف أو يزيدون. كما ترك قلاعه وأبراجه ليقيم في سكن بدائي بسيط قريب الشبه من السكن الذي بدأ منه رحلته.

2ــ رجوعه وحيدا دون أبنائه الأثيرين إليه، هانيبال وإخوته، وسائر أفراد العائلة الملكية سامية المكانة والجناب، وكأنه لم يكن يوما أبا وصاحب عائلة، وهو نفس الحال الذي كان عليه يوم ظعنه قاصدا بيت العائلة الذي بناه بمشاعره وحطمه بمعاوله.

3ــ لم تحتو مخلاته المغبرَّة على دينار ولا دولار، رغم ما كان يملكه منها من مليارات، وكأن هذه المخلاة أرادت أن ترسم بغبارها القوس الأخير من دائرة بطر النعمة وإهدار مال الله، وهو فعل  مارسه القذافي دون رادع من رب أو حذر من قانون.

4ــ وقوفه فردا أمام محكمة سريعة أعدتها له الأقدار، حيث اعترف أمامها ضمنا بأنه كان قاتلا، وأنه بهذا يستحق القتل قصاصا، وهو حكم إلهي عادل تم تنفيذه في الحال، ليكمل هذا الحكم دائرة المحاكم السريعة التي تفنن فيها القذافي، والتي لم تكن تعطي للضحية حتى فرصة التعرف على الجرم الذي قام عليه الإعدام.

5ــ نتج عن السقوط الشخصي للقذافي وفنائه المادي السريع، سقوط كل ما شيده من أنظمة معنوية ومادية، وليبرهن هذا المشهد على أن كل ما فعله القذافي كان باطلا، وكأنه لم يكن، وبأن كل رحلته ما هي إلا دائرة بدأت من عدم، وانتهت إلى عدم.

6ــ أراه الله لون الدم وأذاقه طعمه، ذلك الدم الذي كثيرا ما استخدم لونه ومذاقه في إرهاب كل من طالته يده القاسية المغموسة في دماء المغدورين، وليرسم دمه المراق على التراب آخر حلقة من دائرة نهر الدماء التي أجراها القذافي السنين الطوال.

7ــ أحاطه الله عند موته بهرج ومرج ينخلع له القلب، وكأن القدر الحكيم أراد أن يذيقه في تلك الثواني القليلة ما كان يصنعه من هرج ومرج لتمرير وتنفيذ مكره وغدره. ألم يدأب على جمع الناس ليصرخوا مطالبين بتصفية معارضيه، جاعلا من صراخ هؤلاء وضجيجهم بمثابة موافقتهم وتأييدهم له على ما يفعل.  كما جمع آخرين ليصرخوا فوق رؤوس المقتولين ظلما ساعة تنفيذ حكم الإعدام فيهم، وهو مشهد اختزلته لحظ إعدامه على أيد الثوار الغاضبين.

8ــ شاء الله أن يمزق الرصاص جبينه وذؤابة هامته التي أدمن إعلائها كبرا وتفاخرا واستعلاء، لتعود هذه الهامة إلى حجمها الطبيعي ومكانها الأول كهامة رجل بدوي فقير بسيط ليس إلا. ذلك أن معمر لم يكن عالما أو فنانا أو شاعرا أو رياضيا مرموقا أو صاحب وجاهة وثراء.


9ــ صب الله في قلبه كل الرعب الذي أسكنه قلوب من طاردهم وأرعبهم، ولشدة رعبه لم يكن يدرك ما يقول، بل وربما عند تلك اللحظة تم تصفير مخزون ذاكرته الرهيب، حتى أنه لم يعرف ماذا يجري حوله، ولم يميز بين من هم معه ومن هم ضده، وهو ما يعني رجوع ذاكرته إلى الصفر الذهني الذي كانت عليه ساعة مغادرته قريته منذ عقود.

10ــ أذل الله أتباعه واستأصلهم من جذورهم، تماما كما كانوا يقتلعون الناس من جذورهم وأوطانهم وأهليهم، عندما كانوا ينفذون تلك السياسات الثورية الاستئصالية القاسية، والتي لقسوتها طالت حتى الأبرياء من أطفال ونساء. كما شتت الله مناصريه في أصقاع الأرض، وكأنهم بهذا يكملون الفصل الأخير من مسرحية تهجير الناس التي تمنى فيها القذافي على الليبيين ترك بلادهم واللجوء إلى بلدان أخرى.

11ــ قال لمن حوله مستجديا: حرام عليكم، وهي حالة من الضعف والاستسلام رجعت بذاكرته إلى الوراء العقود الطوال عندما كان بشرا عاديا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وينشد مساعدة الآخرين ويحذر بأسهم.

  
12ــ أسكنه الله قبرا منسيا كما فعل هو بالكثيرين من ضحاياه الذين صفاهم واستأصل كل أثر لهم، وليرسم ذلك القبر المنسي آخر محطة من محطات دائرة النسيان المرعب المخيف، والتي جمع القذافي كل مفاتيحها وأخفاها جميعها معه في ذلك القبر المنسي المجهول.

حقا إنه مشهد يبعث على الشفقة والعظة والعبرة أكثر مما يبعث على أي شيء آخر.

فهل من متعظ.

محمد الشيباني

ليست هناك تعليقات: