الأحد، ديسمبر 18، 2011

سنة أولى ديمقراطية"4"


 سنة أولى ديمقراطية "4" 

اليوم السابع عشر من ديسمبر2011، الذكرى السنوية الأولى لتقديم محمد البوعزيزي نفسه قربانا من أجل الديمقراطية العربية.

وما إن اكتمل دخول الطلبة الفصل، وبُعيد إعلان السبورة الذكية بداية الدرس، حتى ظهر عليها وبخط عريض مؤتلق العنوان التالي:

                      "البوعزيزي شمعة أوقدتها السماء"

فاجأ هذا العنوان المدرس الذي كان مهموما بالمواضيع ذات الصلة بالثورة الليبية ومرحلة الانتقال إلى الدولة.

بدا على المعلم الشعور بالحرج، وذلك لعدم قيامه بالتحضير لإحياء ذكرى البوعزيزي، فالتفت إلى التلاميذ طالبا منهم أن يقترحوا الطريقة التي يودونها لإحياء ذكرى البوعزيزي.

ــ مللنا يا أستاذ الطرق التقليدية ذات الإيحاء المباشر والتمجيد المسرف لصاحب الذكرى، ونتمنى بدلا عن ذلك قيامك بتعريفنا بمصدر شرارة حريق البوعزيزي، وتميزها عن غيرها من شموع.

ــ البوعزيزي حرق نفسه بنفسه.

ــ الكثيرون غير البوعزيزي حرقوا أنفسهم، ولكنهم لم يحدثوا ما أحدث البوعزيزي.

ــ تقصد أن شمعة البوعزيزي ليست ككل الشموع، وذلك لأن شرارتها امتدت كالطوفان، فخطفت الأبصار، وأذهلت العقول، وحار في تفسيرها المفسرون.

ــ أجل يا أستاذ.

ــ أشاركك الرأي.

ــ تشاركني الرأي! لابد أن لديك ما تقوله إزاء هذه الحادثة المدهشة.

وعلى الفور ظهرت علامات الارتياح على المعلم، وأحس أن قيامه باسترجاع بعض انطباعاته التي سبقت حريق البوعزيزي يلبي ما يريده الطلاب، ويخرجه من الحرج الذي أوقعه فيه عنوان الدرس عاليه، وانطلق يسرد عليهم مقالة كان قد كتبها قبل أيام قلائل من اندلاع حريق الثورات العربية وهبوب نسائم التحرر والديمقراطية.

 قال المعلم:

قبل أسبوع واحد من أحداث تونس، وأنا أودع أحد أصدقائي بعد جلسة طويلة نغَّص حديث السياسة أولها، وكدَّر وسطها، وبعثر آخرها،  قلت لصديقي: إن ما يشغلني، بل وأخاف أن يفتنني، وربما يفتن الكثير غيري هو طول أمد أحوالنا السياسية ذات اللون الواحد، والوجوه المتكررة الدائمة، والخطاب المتكلس الممل، وامتداد ذلك كله ولعقود أصبح الأطفال خلالها شبابا وكهولا، والكهول مسنين وربما أمواتا.

ظنَّ صاحبي المتدين أنني ألمز إلى يأس الناس من استجابة دعائهم، وضجرهم من انتظارهم الطويل، وهم يحلمون بتغير الأحوال؛ فقال لي ناصحا: لابد لنا من الصبر، فالقدر له معادلاته وحساباته التي لا تأبه بحساباتنا ومعادلاتنا البسيطة الصغيرة، وهي كما تعلم مرتبطة بالسنن الكبرى التي يخضع لها الكون بأكمله.

ليس لي اعتراض على ذلك. أجبت صاحبي، ولكن الإنسان كما تعلم يا صديقي قصير العمر، قليل الصبر، بل إن معظم الناس، والشباب منهم على وجه الخصوص محدودي الثقافة والإلمام بأمور الدنيا والدين، وهم يستعجلون الحلول كما تعلم.

ثم أضفت: إن الذي يبدو من خارطة الأحداث وسيرتها أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي نعيشها لا يظهر في أفقها ما يشير إلى أي تغيير، اللهم إلا هذه الرتوش التي لا تعدو أن تكون عملية تقليم بسيط لشجرة الدكتاتورية والفساد المتغلغلة، والتي لا يزيدها هذا التقليم والتشذيب إلا ضربا لعروقها في الأرض، وامتدادا لفروعها في السماء.

لم يعقـِّب صاحبي على ما قلته إلا بهزة عمودية من رأسه، زادت شهيتي في الكلام، فقلت له متسائلا: بالله عليك كيف يمكنك إقناع ابنك الشاب الذي جاوز عمره ربع القرن، وأنت تسمعه نفس الاسطوانة التي تردد، وتعيد فيها بلا كلل ولا ملل بأن الذين ينجحون من الناس ويظهرون على من سواهم هم أولئك الصالحون الذين لا يكذبون ولا يرتشون ولا يقتلون الناس ظلما ولا يغتصبون مالا.  

لا يمكنك أن تقنعه بذلك وقد سبق له أن حفظ كلامك عن ظهر قلب عندما كان طفلا، ثم فهمه وحدث به أقرانه صبيا، ثم حلله وبدأ يبسطه على الواقع والمحيط الذي يعيشه شابا، فما وجد لما تقول من برهان، بل ربما وجد خلاف ذلك؟

كيف لك أن تقنعه بأن إماطة الأذى عن الطريق الذي دأبت على فعله طول عمرك، وقلدك هو فيه المرة تلو المرة، ولكنه كان  كلما أماط حجرة واحدة في طريقه وهو ذاهب، وجدها حجرات وهو راجع، وأن من يضع الأذى في الطريق هم حراس الطريق والمسئولون عنها.

كيف لك أن تقنعه بأن المواظبة على الدراسة وإحراز الدرجات والشهادات العلمية العليا هو الطريق الوحيد للنجاح، وهو يرى أن الكثير من الكسالى والفاشلين قد أصبحوا وجهاء مرموقين، لا لشيء إلا لأنهم ذهبوا في طريق غير الطريق السوي الذي دعوته أنت إليه.

كيف لك أن تقنعه بأن الموظف الناجح، والذي تختاره الحكومة وتدعمه وتبقيه في وظيفته، هو ذلك الموظف الأمين الذي لا يسرق ولا يرتشي ولا يستغل وظيفته بحال، ثم يرى أمين اللجنة الشعبية لمحلته وهو العضو في المثابة الثورية أيضا، لا يمنح ورقة ولا شهادة إلا بعد أن يقبض ثمنها جهارا نهارا، ولا يزيحه عن مكانه هذا أحد السنين الطوال.

كيف لك أن تقنعه بأن المستقبل أمامه زاهر، وقد يصبح يوما مديرا لشركة أو رئيسا لمؤسسة أو وزيرا أو غير ذلك من الوظائف المرموقة، وهو يرى أن هذه الوظيفة قد غيرت سلاسلها الجينية لتتلاءم وتتطابق مع ملامح السلاسل الجينية لبضع مئات من الأشخاص لا غير، وما عدا هؤلاء ليس لهم نصيب البتة في هذه الوظائف.

كيف لك أن تقنعه وأنتما في طريق عودتكما من قاعة المؤتمر الشعبي الأساسي بأنه مواطن حر وأن السلطة بيدك ويده، ثم ما يلبث أن يعلم أن السلطة الحقيقية قد استحوذ عليها ولعقود أولئك المطابقون لها جينيا، وأن حضور تلك المؤتمرات لا يعدو أن يكون طقوسا تؤدى ليحافظ ذلك الهيكل على قدسيته وقدسية كهنته.    

كيف لك أن تقنعه بأن الأيام دول، وهو يرى السنين بل العقود الطوال تمضي، ولم يتغير خلالها شيء، بل إن الأيام نفسها قد قامت بتوقيع عقد أبدي مع فئة قليلة من الناس خوَّلتهم بموجبه التحكم في رقاب من سواهم؛ فحددوا بذلك مصيرهم، وتصرفوا وتكلموا نيابة عنهم؛ تصرفا وكلاما لا يرضى به، ولا يقبله أي من أولئك المغبونين المقهورين.   

أفاق صاحبي من صمته الطويل، وكأن جرس الكلمتين الأخيرتين، المغبونين والمقهورين، المفزع هو الذي استله من سكوته الطويل، وقال لي: أعلم ذلك، ولكن ما العمل، فليس بمقدور أحد أن يغير واقعا استقر في عمق المكان، وهدهده حضن الزمان حتى غط في نوم عميق.

أجبته: ليس الخوف من أن يبقى هذا أو ذاك حاكما لمدة طويلة، وإنما الخوف من استقرار الباطل وديمومته حتى يصبح هو القاعدة، وما عداه هو الشذوذ، وتصبح إماطة الأذى عن الطريق عبث، والأمانة هوس، والتنافس الشريف دعاية سمجة، والرشوة دخل معترف به، والحق باطل والباطل حق.......الخ.

ردَّ علي صاحبي مستنكرا: كأنك تريد أن تقول أن دوام الباطل وطول حبله يزعزع ثقة الناس فيما يحملون من قيم ومثل؟

أجبته: نعم. هذا هو الذي أعنيه بالضبط. وأتمنى على الله أن يعجل بآية من آيته، تدعم ما بقي من رجاء في قلوب المنتظرين الضعفاء وأنا أولهم.

لم يمض على هذا الحديث سوى أسبوع، نزلت بعده من السماء شمعة البوعزيزي مصحوبة بصاعقة بن علي ومن بعده ماحقة مبارك ثم طامة القذافي.

قبل أسبوعين من هذا الحدث المشهود كان آل بن علي ملء السمع والبصر، ولا يمكن لأشد الناس تشاؤما بأن يتوقع ما حصل لآل بن علي، حتى أن فرنسا عاقبت سفيرها لدى تونس، وذلك لعدم علمه بالتنبؤات السياسية القدرية!

لم تسمح الصاعقة السريعة الماحقة لجهاز رئاسي متغلغل الجذور ممتد الفروع محليا وإقليميا ودوليا بأن يتمكن من حجز مكان على وجه الأرض الفسيحة ينام فيه رأس هذا الجهاز الذي كانت له الأرض كلها فراشا ومجلسا.

لم يتمكن فخامة الرئيس من نظم مجموعة كلمات، ولو وداعية، يعلم فيها من حوله بما هو مقدم عليه، أو إلى أي وجهة هو يتجه، وكأن معين الكلمات الذي استأثر به السنين الطوال قد نضب، ولسانه الطويل الذي طوق به حجج من سواه قد قطع.

لم يتمكن أحباء الرئيس الدكتاتور وأصدقاؤه، وقد صدمتهم المفاجأة، من نظم جملة واحدة في رثائه، ومن استيقظ منهم بعد عدة أيام لم يجد لسارق من حجة، ولا لمستبد من ذكرى.

في سويعات قليلة اهتز العرش المكين وتناثرت أجزاؤه. وفي سويعات قليلة تزلزل النظام المتين واضطربت أركانه. وفي سويعات قليلة تفسخ النظام وتلاشت حججه وسفهت مبادئه. وفي سويعات قليلة أصبح الخائف آمنا وصاحب الأمن ومانحه خائفا فزعا مرعوبا. وفي أيام قليلة أضحى الذي يتخذ البوليس الدولي مخلبا له يلتقط به طرائده، أكبر وأبرز وأسمن طريدة يمد إليها وحش البوليس الدولي أسنانه ومخالبه.

لم يجرؤ أحد رغم جلال هذا الحدث، بأن ينسب إلى نفسه ولو نزرا يسيرا من هذا الحدث، وذلك لا لشيء إلا لأن هذا الحدث هو بحق حدث سماوي، ومنة إلهية.

كما لن يتجرأ أحد بعد اليوم أن يتكأ على نشرات التنبؤات السياسية والاقتصادية، المحلية والدولية، أو ما يفتريه المخبرون عن الأمن المستتب ومؤشرات الرأي العام، وذلك لأن الصاعقة التي حلت بآل بن علي كانت قد قدمت من هناك. إنها من علٍ، ومن خالق بن علي.
    
          

رحم الله محمد البوعزيزي
 
شمعة السماء، لمحو ما في الأرض من ظلماء

ومنحة السماء، لدعم الرجاء

محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: