الخميس، ديسمبر 29، 2011

سنة أولى ديمقراطية"7"



سنة أولى ديمقراطية  "7"

     " تحتاج الوظيفة العامة للعلم والحب، ولكنها للحب أحوج"

ما إن ظهر هذا العنوان على اللوحة الذكية حتى انخرط طلبة السنة الأولى ديمقراطية في سجال ساخن حول قيمتي العلم والحب والأهمية النسبية لكل منهما في امتحان إحراز شهادة الكفاءة في تولي المناصب العامة، بدءا من منصب رأس الهرم، ومرورا بالوزراء والمدراء الكبار، وانتهاء بالوظائف العامة الكثيرة المنتشرة على قاعدة الهرم.

احتدم الجدل، وأخذ كل فريق يدافع عن وجهة نظره بشواهد وأدلة كان قد سجلها التاريخ لسير رجال شغلوا الوظائف العامة في كثير من الدول العربية والأجنبية، وفي مقدمة هذه الدول بطبيعة الحال بلادنا ليبيا.

لم يصل المتنافسون إلى حسم لهذه المشكلة، وكاد وقت الدرس أن ينتهي، وتعلن اللوحة الذكية تأجيل المداولة إلى الدرس القادم. 


وفي المدى الضيق للدقائق الأخيرة للدرس، لم يُخفت ضجيج المتكلمين المتنافسين سوى صوت أصغرهم وأقلهم مشاركة منذ بداية العام الدراسي. قال ذلك المشارك الصغير متسائلا:

ــ ماذا لو اعتبرنا وظيفة ولي أمر الأسرة الصغيرة من الوظائف العامة؟

ــ ماذا تعني بسؤالك؟ علق المدرس.

ــ لم أرِدْ بسؤالي هذا سوى الإتيان بنموذج افتراضي للمشكلة المطروحة، واتخاذ ذلك النموذج وسيلة إيضاح لحل هذه المشكلة الكبيرة.

ــ قال المدرس: كأنك بهذا تريد تحوير سؤال الدرس المطروح ليكون على النحو التالي:

ما هي الأهمية النسبية لعنصري العلم والحب لدى الأم أو الأب عند إدارتهما لشأن الأسرة. أيْ أيُّ هذين العنصرين أهم من الثاني؟

ــ وعلى الفور صاح الجميع بصوت واحد: الحب الحب!

أجل. الحب الحب. ردد المدرس، وبصوت متهدج، هذه الكلمة التي أثارت لديه الكثير من الشجون، ثم استطرد قائلا:

طوال عقود التسلط والاستبداد الماضية، لم يكن يسمح لنا، ونحن نناقش أمر الوظيفة العامة، وخاصة تلك المحتلة لرأس الهرم والدائرة المحيطة به، سوى مناجاة أنفسنا، وفي أحسن الأحوال مناجاة الزوج زوجته أو الأب ابنه. وكم كان الغبن يطحننا ونحن نقارن أصحاب الوظيفة العامة في بلادنا مع قرنائهم في بلدان أخرى.

كنا نعقد هذه المقارنات بيننا وبين دول تجمعنا وإياها ظروف وصفات مشتركة جغرافية واقتصادية وسكانية وغيرها، ولكننا سرعان ما نجد الاختلاف واضحا بيننا وبين هذه الدول في نواتجها الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية. ونظل نبحث عن سبب ذلك فنجده كامنا هناك في قلوب الرجال الذين تقلدوا الوظيفة العامة من رأس هرمها حتى أخمص قدميه.

وجه الشبه بين ليبيا والإمارات كبير جدا، ولكن وجه الشبه بين انجازات حكومة الشيخ زايد وحكومة معمر القذافي يكاد يكون منعدما.

الشيخ زايد رجل دولة الإمارات الأول ومؤسسها، كان  بسيطا في كل شيء؛ في مظهره، وكلامه، وحتى نظرات عينيه. كان رئيسا ولكنه أشبه ما يكون بأب لعائلة كبيرة اسمها دولة الإمارات.

معمر القذافي المتعالم المتفاخر المتعاظم المتكبر، لم يشعرنا يوما بأنه أبونا، وإن كان يجبرنا على أن نسميه كذلك.

وباستنتاج منطقي بسيط نستطيع أن نقول: إن بساطة علم الشيخ زايد لم تحل دون تقدم الإمارات ونهضتها، وأن جرعة حب الشيخ زايد الزائدة كثيرا عن جرعة علمه هي التي كانت وراء نجاح الإمارات.


وفي المقابل نجد أن تعالم القذافي وحسبان نفسه فيلسوفا ومنظرا وحكيما، وشعوره بأنه لم يسبقه إلى علم قيادة الشعوب أحد، مع نقصان وربما انعدام جرعة الحب لديه، هو الذي أدى إلى تخلف ليبيا وتورطها أخيرا في حرب أكلت الأخضر واليابس.

دعونا من الإمارات، ولنضرب مثلا بدولة عربية أخرى لديها بعض الشبه بليبيا، ألا وهي عُمان.

لم يعلن قابوس سلطان عمان حربا أهلية ضد مناوئيه ومنافسيه على الحكم عندما شقوا عصا الطاعة عليه في وقت مضى. وعملت جرعة الحب المعقولة لديه كصمام أمان في حفظ سلطنة عمان من حرب أهلية. جرعة الحب في قلب قابوس جعلت يده ناعمة رفيقة فامتدت إلى أيدي منافسيه وتصالح معهم. وهو تصرف أبوي حكيم حقن به الحاكم الأب المحب دماء أبنائه المشاكسين.

وليس هناك أدنى شك في سريان عدوى الحب أو الكره من أعلى هرم السلطة إلى أسفله، ومن أعلى مكان حيث رئيس الدولة إلى من هم دونه من وزراء ومدراء كبار وحتى أصغر مسئول عام.

أحاول عبثا كدَّ ذاكرتي لأخرج منها مجرد شذرة من حب عذري لليبيا والليبيين بدت ذات يوم من أيام العقود الطوال على وجه ولسان القذافي وكذا معظم أعوانه الذين استعبدونا واحتكروا حكم بلادنا ليبيا طوال العقود.

كان حب أولئك الأمناء الخونة للسلطة والمال يطغى على كل حب ولو كان حبهم لأبنائهم.

ألم يقدِّم معمر القذافي والدائرة المقربة منه من الضباط والأمناء المخلصين له أبناءهم قرابين لآلهة السلطة التي كانوا يعبدونها؟

بلغ دليل انعدام حب الوطن لدى القذافي ومؤيديه مرتبة الحجة القاطعة، وتجلى هذا في مساء ذلك اليوم المشئوم الذي صاح القذافي فيه بأعلى صوته، وردد وراءه أنصاره قائلا: سأجعل ليبيا جمرا.

وكان لهم ما أرادوا، وجعلوها بكرههم لها جمرا.

هل هناك دليل يثبت خلو قلب القذافي من حب ليبيا أعظم من هذا؟

ليس هناك من مهر نهديه لأمنا ليبيا في سنتها الأولى ديمقراطية أثمن وأغلى وأزهى وأبقى من غمرها بحبنا، والذي يجب أن تعلو جرعته على جرعة كل شيء آخر ولو كان هذا الشيء هو العلم.

"على كل ما يقال في السياسة من قذارة، ولكن لا مناص من بناء محراب حب ببعض طوبها القذر".

"ليس هناك من شهيد أعظم من شهيد عمَّد حبه لوطنه بدمه الغالي".

"ليس هناك أعظم من رئيس أغناه نبض قلبه عن حد سيفه في سياسة شعبه".
 

محمد الشيباني



ليست هناك تعليقات: