السبت، ديسمبر 31، 2011

سنة أولى ديمقراطية"8"



سنة أولى ديمقراطية"8"

من أنتم؟ سؤال أجبنا عليه فأحرزنا الانتصار.
 من نحن؟ سؤال يجب أن نجيب عليه لإحراز الاقتدار.


الكثير من تلاميذ السنة الأولى ديمقراطية لم يتيسر لهم فهم ما تضمنته العبارات السابقة التي ظهرت على اللوحة الذكية. أما من تمكنوا من استيعابها فقد ظهرت على وجوههم علامات دهشة اختلط فيها شعور الفرح بالانتصار، مع الشعور بالخوف من عبء مسئولية إحراز الاقتدار.

ترك المعلم فئة الطلاب القليلين الذين أدركوا مضمون هذا العنوان جانبا، وأعجبه انخراطهم في نوبة تفكير وتأمل تشي بفهمهم لما يطرحه مضمون الدرس من إشارات خفية، وتفرغ للفئة التي استعصى عليها فهم مضمون كلمتي السر"من أنتم؟" و "من نحن؟".

قال المدرس:

من أنت؟ سؤال معتاد ودائما ما يوجه إلى الكثيرين منا، وبشكله الصريح المباشر الذي نعرفه، وتكون الإجابة عليه صريحة ومباشرة أيضا، حيث نجيب سائلنا بذكر أسمائنا إذا أراد التعرف على هوياتنا، أو نقوم بتعداد رغباتنا لمن أراد أن يتعرف على هوانا.

أما السؤال من أنا؟ فهو سؤال غير اعتيادي وقلما يخطر على بال أحدنا أن يقوم بطرحه على نفسه. وحتى وإن حدث ذلك، على ندرته، فإن الإجابة عنه تتسم ببعض الغموض والتعقيد والمواجهة مع الذات، والتي هي من أخطر المواجهات التي يتعرض لها كل منا.

قد يعيش الكثير منا، وبكل أسف، العقود الطوال وهو ينظر إلى وجهه في المرآة كل يوم، ولكنه لا يخطر بباله القيام بمغامرة اكتشاف ذاته ومواجهتها ولو لمرة واحدة، وذلك راجع ربما لفرط ثقتنا في أنفسنا، أو لتعصبنا لها وتنزيهها عن كل شبهة من تقصير قد تؤدي إلى جرجرتها حيث ساحة محكمة الذات، وهي محكمة يكون فيها الإنسان نفسه مدعيا ومحاميا وخصما وقاضيا.

حقا إنها لمهمة صعبة أن يكون الشخص مدعيا وخصما ومحاميا وخصما وقاضيا، ومع من؛  مع النفس. ولكنها مهمة ضرورية!

إن مواجهة كل واحد منا ذاته حرب يشتعل أوارها منذ اكتشاف كل منا نفسه، وتستمر مستعرة حتى ملاقاته ربه. وهي رغم استعارها المستمر ولكنها تظل حربا باردة وذات مفعول تدريجي تراكمي يدب دبيب الزمن ويفعل فعله. والزمن كما يعرف الجميع سيف إن لم نبادر بقطعه قطعنا، ولكن على البارد!

أحد عللي وأمراضي النفسية، وربما الكثير غيري، هو جنوحي الدائم إلى تأجيل فتح ملفاتي الشخصية المزعجة المعنوية منها والمادية. دليل ذلك كرهي إجراء الفحوص الطبية الروتينية خوف اكتشاف ما يسوءني معرفته من أورام أو علامات مرضية خطيرة أخرى، وأفضل، ويا لبلاهتي، حمل تلك الأسقام والأورام وتسمينها.

وإلى جانب تأجيلي لعللي وأمراضي الجسمية المادية، فإنني أؤجل أيضا، وإلى أجل غير مسمى، أمراضي المعنوية الكثيرة المزمنة، والذي يأتي في مقدمتها بالطبع مرض التأجيل ذاته.

بعض أنصار القذافي ومحبيه اتخذوا من علة كتماننا الشعور بالخوف من المستبد، وعدم مواجهتنا لذاتنا في الوقت المناسب بهدف تخليصها من الشعور المرضي المفضي إلى الخنوع للحاكم الظالم، اتخذوه حجة علينا، ومبررا لتشبث القذافي المرضي بحكمنا.

وبمعنى أدق تم تحميلنا جريرة عدم مواجهتنا أنفسنا، ورفع أصواتنا بالسؤال الخطير: من نحن؟

القذافي، ومن حيث لا يدري قدم لنا مفتاح أخطر ثغرة في حصون الاستبداد والدكتاتورية والعدوانية التي تمترس فيها العقود الطوال، وذلك عندما قام من وراء أسوار هذه الحصون العملاقة وقذف إلينا بكلمة السر التي فتحت أمامنا كل منغلق، وقادتنا إلى الانتصار.

الثغرة كانت ثغرة الخوف. أما كلمة السر فهي: من أنتم؟
وما إن طرقت هذه الكلمة أسماعنا حتى سرت فينا رعشة الحياة، واتصلت الدائرة الكهربية المشغلة لآلة حساب عددنا وعتادنا، فأعلمتنا هذه الحاسبة، وللمرة الأولى، بأننا عددنا ستة ملايين إنسان كرماء على خالقهم العظيم، ولكنهم مأسورين مغبونين مهانين لدى حاكمهم الحقير الوضيع.

نهض أحد الطلبة، وقاطع المدرس قائلا:

هذا تفسير نفسي ميتافيزيقي قد لا يقنع الكثير. وظني بأن القذافي عندما سأل هذا السؤال وهو متمترس في خندقه إنما كان يتمثل حال حاملي السيوف في معارك المبارزة القديمة، والذين كانوا يصرون على معرفة هوية من يبارزون، ورشف الجرعة الأخيرة من الحماس، والتي تتأتى من خلال معرفة الفارس الفارس الذي يبارز، وبأن من يبارزه كفؤ له ولائق بمنازلته. ولذا قال القذافي من أنتم؟ منتظرا بطبيعة الحال الإجابة، ومبادلته سؤالا بسؤال. أليس كذلك يا أستاذ؟
ضحك المدرس ملء شدقيه، وقال للطالب أظنك قلت ما قلت مازحا، وذلك من أجل رفع السآمة والملل عن زملائك، ولكنني رغم ذلك سأجيبك على تساؤلك.
القذافي، يا بني، لا يحتاج أن يسأل الليبيين عن إمكانياتهم فهو أعرف الناس بهم، ويعرف المارد الذي يسكنهم، ولذلك وظف ما يزيد على أربعين ألفا من أعوان الأمن الداخلي، كما وظف مثل هذا العدد أو يزيد ما بين أمن خارجي ولجان ثورية وكتائب عسكرية، وسوف لن يضيف هذا السؤال جديدا لما يعلمه.

أجزم، يا أيها الثائر الصغير، بأن هذه العبارة ألقاها جند من أجناد الله على لسان القذافي حتى تكون هي كلمة سر انتصارنا عليه. ذلك أنه وبقدر ما حمَّل القذافي هذه الكلمة من سخرية واستخفاف بالليبيين، بقدر ما وجد الليبيون في هذا السؤال الصاعق ذاتهم المنهزمة المتشظية، وكيانهم المعنوي الذي سحقه الدكتاتور على مدى العصور، فلملموا كل هذه الشظايا وصنعوا منها كأس الانتصار الذهبي الذي أذهل العالم بريقه.

ولبلوغ وقت الدرس نهايته سارعت اللوحة الذكية بتذكير الحضور بشطر الدرس المهم وهو قيام الليبيين أنفسهم بتوجيه السؤال الكبير الخطير إلى أنفسهم بعد أن حرروها من مغتصبها ومسترقها:

من نحن؟

وهو ما سيكون موضوع الدرس القادم إن شاء الله.

محمد الشيباني



       

ليست هناك تعليقات: