الخميس، يناير 12، 2012

سنة أولى ديمقراطية"12"

سنة أولى ديمقراطية "12"

                  ** البداوة المهجنة حتى الانفلات **

يصح إطلاق لفظ البداوة على معظم سكان العالم العربي، وبصورة أخص على سكان المناطق التي لم تمنحها الطبيعة مقومات الاستقرار في مكان واحد؛ مثل أرض خصبة ممطرة طوال العام، أو واد ممتد لا ينقطع دفقه، أو منجم مكتنز جوفه، أو غير ذلك من عوامل الاستقرار والاستغناء عن الضرب في الأرض طلبا للكلأ والماء.

وهناك من يجعل من البداوة والجاهلية شيئا واحدا، وذلك من جهة دلالة اللفظين على البعد عن المدينة، والنأي عن العمران. وهو رأي تؤيده الكثير من الشواهد.

إن مجرد ما يحدثه المكان النائي عن العمران في سلوك ونفوس ساكني البادية ومجاهل الأرض، كفيل بإلصاق صفة التخلف بساكني هذه الأمكنة. وتزول صفة التخلف هذه بزوال أسبابها، وذلك إما بتطور المكان نفسه وهجرته من تخلفه، وارتدائه ثوب المدينة واستعماله أدواتها، أو بتطور الإنسان القاطن اضطرارا البادية، وإقدامه على كسر طوق البداوة والجاهلية، والهجرة منهما إلى الأبد، إلى حيث موئله الأخير، المدينة.   

ولأن الحضارة والمدنية ضالة كل إنسان راشد، فقد بات من الظواهر المؤكدة تآكل البادية وتطور سكانها وهجرتهم المتواصلة من البادية إلى المدن.

وحيث أن البقاء للأصلح، فليس للبادية من بُدٍّ سوى الخضوع لهذا الناموس الكوني الصارم، والتحول من كيانها الشاذ المؤقت إلى الكيان الحضاري الدائم، المدينة، حيث يعيش الإنسان مكرَّما كما أراد له خالقه أن يكون.

تجاوب الليبيون منذ الأزل مع ناموس الطبيعة الذي يُركِض الناس من مقامهم الطارئ، البادية، إلى حيث مقامهم الدائم المدينة. وساعد اكتشاف النفط على زيادة وتيرة خطوات الراحلين عن الكهوف والخيام، إلى صروح المرمر وأبراج الرخام.

والليبيون في رحلتهم المباركة مكانا ووعيا من البادية إلى المدينة، حققوا ما يمكن أن يطلق عليه طفرة حضارية، وذلك بفعل ما توفر لديهم من زاد خلال هذه الرحلة التاريخية، حيث تشكل زادهم من موفور الموارد الطبيعية التي حباهم الله بها، وكذا بما جبلت عليه نفوسهم من قابلية للتمدن، بالإضافة إلى حكومة راشدة متحضرة دفعت بهم في المسار الصحيح، وهو مسار طلب التحضر وهجر التبدون والتصحر.

كل المؤشرات التي ظهرت في بداية المسيرة كانت مشجعة جدا، حيث بدت دولة ليبيا على شاشة كمبيوتر الخبراء والمحللين الاستراتيجيين في بداية الستينات كما هي عليه دولة الإمارات العربية، توأم ليبيا، الآن.

في خطين متوازيين، وفي نفس الموعد تقريبا، بدأ كل من البدو الإماراتيين والبدو الليبيين رحلتهم من مجاهل البادية إلى الحاضرة، فوصل البدو الإماراتيون في موعدهم، وعلى الحال الذي توقعه خبراء رحلتهم التاريخية ومهندسوها.

السبب الأهم وراء نجاح الإماراتيين في التحول السريع  من البداوة إلى المدنية، هو أن بداوتهم البسيطة البريئة التي حملوها معهم إلى المدينة سرعان ما تحللت إلى عواملها الأولية وذابت في الوسط الحضري، دونما أن تسبب أي إعاقة في تيار حياتهم المنتظم.


البدو الليبيون، وبفعل حتمية النواميس، فعلوا هم أيضا ما فعل غيرهم من الراكضين في مضمار النزوح السرمدي من الأدنى إلى الأعلى، ولكنهم، البدو الليبيون، وبفعل طارئ طرأ على رحلتهم لم يتمكنوا من قطع المسافة بين التخلف والتحضر في المدى الزمني المعقول، كما أن تكلفة الرحلة قفزت إلى معدل لم يتوقعه أكثر المحللين تشاؤما. آخر هذه التكاليف حرب أهلية.

لماذا؟


مكان بداية الرحلة واحد، البادية العربية.
مكان نهاية الرحلة واحد، حاضرة كحاضرة الإمارات مثلا.
زمن الرحلة واحد، وهو أربعة عقود من الزمن الغالي.
زاد الرحلة واحد، حيث البشر: عرب،  والموارد: نفط.

ليس هناك من سبب وراء انتكاسة رحلة الليبيين سوى ما يمكن أن يطلق عليه البداوة المهجنة حتى الانفلات التي طرقت باب المدينة بعنف ثم كسرته، وتحوصلت على نفسها مانعة مكوناتها من الذوبان في أجواء الحاضرة والتشكل في قوالبها، وهو أمر نشاز غير معهود أثقل خطى البدو الليبيين ، وحاد بهم عن هدفهم ومرماهم.

أعلم أنني أطلت هذه المقدمة بعض الشيء، ولذا يتوجب عليَّ الإيجاز. أليس كذلك؟

حسنا، سأفعل.

خلاصة القول أن البداوة في خلقتها العادية كائن خجول بريء، وقد تعامل معه الكثيرون بالطريقة التي نعلم، ولم يفعل بهم ما فعله بنا نموذجه المطور المنفلت، البداوة المهجنة.


لا استطيع أن أغادر دون أن أقف بكم، ومن الآخر، كما يقولون، وأريكم مشهدين من مشاهد البداوة المهجنة الوقحة الفجة، والتي شكلت بتراكمها فوق جوهرة وعينا وإدراكنا طبقة من الحمق والسفاهة، وضعتنا في الدرك الأسفل من دنيا الناس، وأي درك أشنع من درك محاربة بعضنا بعضا. وهذان المشهدان هما:

تخيلوا معي إنسانا سويا يرى رئيس دولة في الألفية الثالثة، يقوم بشحنُ خيمة وناقة جوا من فيافي ومجاهل الجماهيرية، ثم يتكلف، ولدرجة الجنون، في الحصول على مكان لهما في مركز أكبر مدن العالم وبؤبؤ عين الحضارة والمدنية، حيث تدق هناك، وبتكلف أيضا، أوتاد الخيمة قسرا وقهرا وضد طبائع الأشياء، ثم  يرغم هذا الرئيس المعربد قوة الطوارئ الصحية في البلد الأوروبي المضيف على الاستنفار لإزالة ما يقذف به جوف ناقة ذلك البدوي الذي تكلف في تهجين بدويته إلى حد الجنون.

 لو صادف وأن رأى عابر شارع باريسي الخلقة والتفكير، وعلى حين غرة، إحدى صور البداوة المهجنة، وهي الخيمة والناقة الجماهيرية، وقد استقر بهما المقام في فناء قصر الإليزيه، لقضى ذلك الباريسي ما تبقي من عمره في إحدى المصحات النفسية.

هذا المشهد بكل ما يحويه من قبح واستهجان يبدو صغيرا جدا أمام إعجاب الجهاز السياسي والإعلامي للجماهيرية العظمى بما فعله رأس هرمه في غزوته الباريسية المشهودة، وقيامه، هذا الجهاز، بعقد استقبال أسطوري لقائد النصر والتحدي. كيف لا وقد فعل القائد البدوي المهجن ما فعل!  

ترى ماذا يتبقى في وعي شاب ليبي مقدم على الحياة الصعبة التي تشترط المنطق في كل شيء، وهو يرغم على تسمية الأبيض أسود، وقمة الانحطاط ذؤابة الانتصار!

صورة أخرى صادمة من صور البداوة المهجنة:

وزير خارجية دولة كبيرة يقوم بزيارة رسمية لدولة الجماهيرية العظمى، ووفق طقوس البداوة المهجنة يجد هذا الدبلوماسي الكبير نفسه في ذات الخيمة التي دقت أوتادها غصبا عن أنف الجميع في باريس، ووجها لوجه مع ملك ملوك البداوة المهجنة، حيث يجبر القائد الوزير المغلوب على أمره، بروتوكوليا طبعا، على الكرع في حليب الناقة حتى الارتواء.

ارتوى المسكين من الحليب الذي لم يذقه في حياته قط، ثم شرع من فوره في رحلة العودة إلى بلاده عبر جربة التونسية التي صنع منها الحصار بوابة الأسفار للصغار والكبار.
     
في الطريق من مكان الخيمة والناقة إلى حيث يريد الوزير حدث المضحك المبكي، حيث لم يكن أمام الوزير المبجل من حل، بعد أن غير طريقة قعدته على كرسي الليموزين المخملي مرات عديدة ومريبة، وكذا قيام مرافق الوزير بإفراغ ما لديه من مخزون تعطير الجو، سوى طلب توقف الموكب الديبلوماسي الباذخ، والسماح للوزير بالترجل من الليموزين ثم اللواذ بالخلاء، حيث فعل ما لم يفعله قبله وربما بعده وزير قط، وهو الاستجمار بالحصى في الأجواء المخملية.

ليس هناك من سبب وراء  هذا الحدث الجينزي الفريد سوى البداوة المهجنة حتى الانفلات. أجل حتى الانفلات!

الكائن الممسوخ، البداوة المهجنة، هو من كتب بين جفوننا والمآٌقي، وبالخط المتوهج العريض:

حطمت عصا الراعي تاج الملك.
وانتصرت الخيمة على القصر.

من فضلكم يا إخوتي الليبيين البدو تحسسوا ثنايا أفكاركم، وسراديب نفوسكم، ومسارب وعيكم، وستجدون هذا الكائن اللئيم، البداوة المهجنة، في إحدى صوره الكريهة، وقد انخرط في تشويه كل فكرة حسنة لعاقل، ونزع كل نزعة خير في نفس إنسان بدوي بريء، وطمس كل ومضة وإشراقة حق وعدل لمعت في وعيكم. وبكل تأكيد سيسرق منكم ثورتكم إن لم تسارعوا بالقضاء عليه واجتثاثه.

مشكلة أمراضنا التي ترسم بشكل أو آخر هويتنا وتتدخل بقوة للإجابة على السؤال المحوري: من نحن؟ هي أن هذه الأمراض يغذي بعضها بعضا، وتتقاطع في نقاط كثيرة، مشكلة طوقا من البؤس، قيدنا بحباله الفولاذية أربعة عقود، ولن يتردد في تطويقنا المدة ذاتها، إن لم نشن حربا لا هوادة فيها عليه. وبعدها فقط ستصبح طرابلس وبنغازي توأم دبي، وربما سنغافورة.

أعلم أنني أطلت، ولكنني كما وعدت، أحاول أن أجيب على السؤال الكبير:

من نحن؟

أولا: نحن ضحايا العوز الثقافي.
ثانيا: نحن ضحايا البداوة المهجنة.
أما ثالثا، فسنطرق بابها في الدرس القادم إن شاء الله.

ولأن مهمة الإجابة عن هذا السؤال: من نحن؟ مهمة صعبة وجسيمة ويلح بها الظرف الحرج القائم؛ فإنني آمل ممن لديه إجابة على هذا السؤال المبادرة بالتطوع بها، لما في ذلك من إنارة لدربنا الموحش الطويل، وتقصير لفترة استواء الصف الديمقراطي الليبي الذي أرجو أن يبلغ كماله بانتهاء السنة الأولى ديمقراطية.

محمد الشيباني
Libyanspring.blogspot.com

ليست هناك تعليقات: