سنة أولى ديمقراطية"13"
** ومرة ثالثة، من نحن؟ **
الليبي براغماتي مثالي، ولكن لحسابه الخاص فقط
هكذا ظهر عنوان الدرس الثالث عشر على اللوحة الذكية، مشيرا إلى العنصر الثالث من عناصر الإجابة عن السؤال الكبير: من نحن؟
والبراغماتية في شكلها البسيط هي سلوك الإنسان الذكي الرشيد، للوصول من أقصر الطرق وأجداها إلى ما يريد.
والبراغماتي الفرد يكون ذا صوت متناسق بديع وهو يقوم بدوره الذي يكلفه به مايسترو الفرقة البراغماتية المنتمي إليها العازفة لنشيد الوطن كله. كما يكون صوت هذا البراغماتي نشازا مفسدا لعمل فرقته ومحبطا لمسعاها إذا حلق بعيدا عن السرب، وغرد تغريدا مخالفا لتغريد المجموعة.
من السهل إقناع الفرد بأن يكون براغماتيا يعمل لحسابه الخاص، وذلك لما في عملية حساب ربح وخسارة العملية البراغماتية الشخصية من سهولة وبساطة. بيد أن أمر إقناع الفرد بالانخراط في الجوقة البراغماتية للمجموعة ككل والقبول بصفقتها المشتركة، يتطلب عملية حساب ربح وخسارة أصعب وأعقد من تلك التي تتطلبها ضرتها البراغماتية الفردية.
لا يتطلب حساب العملية البراغماتية الشخصية سوى قراءة بعض القياسات الغريزية والنزعات النفسية السطحية المباشرة، أما براغماتية الفريق فتتطلب الغوص في قياسات أعمق في النفس والشعور، ووضع اشتراطات أخلاقية وقيمية لا تتوفر في الإنسان بمجرد حصوله على الرقم القومي، أو عضوية المؤتمر الشعبي الأساسي، ولا حتى عضوية مكتب الاتصال باللجان الثورية، بل إن رجال الخيمة السابقين فشلوا فشلا ذريعا في ذلك، فمعظم هؤلاء، و برغم ما اجتروه طوال العقود من مقولات ودعوات وأناشيد حماسية براجماتية، إلا أنهم كانوا وراء كل قصور فادح، وإخفاق فاضح، في كل مباراة خاضها الفريق الوطني الذي احتكروا وحدهم عضويته طوال السنين الأربعين العجاف.
زاد في صعوبة تفهم الفرد الليبي لدوره في المنظومة البراغماتية الوطنية، قيام مايسترو الجماهيرية بتعلية سقف طموحاته لتشمل قيادة العالم كله وإنقاذ البشرية جمعاء. حيث بدا الهدف البراغماتي للجماهيرية العظمى غير قابل للتطبيق، وأصبح الفرد الليبي يرى في إصرار المايسترو الوحيد القذافي على تنفيذ نوتته المرهقة المستحيلة ضربا من الجنون، وأحس المواطن الفرد بأن دوره في مسيرة الدولة والجماعة غير ذي شأن.
في أجواء عدم الاقتناع بالهدف الجماعي وشطط القيادة وتهورها، حدث صخب وهرج ومرج، ساعد الكثيرين على إخفاء لحنه النشاز الشاذ، وهو العزف على وتر البراغماتية الشخصية الأنانية الضيقة. بل هناك من اقتنع بأن قيامه منفردا بنهب ما يمكنه نهبه هو عمل شرعي ينقذ بموجبه مالا ضائعا له فيه نصيب.
أربعون عاما وزيادة، والحلم البراغماتي الجماعي يسَّفه في أذهان الليبيين ووجدانهم، وذلك بما أدمنه النظام الحاكم السابق من تعثر وسقوط متتالي مع كل خطوة يخطوها، موهما الليبيين بأنهم رغم خسارتهم الظاهرة رابحون، وبأنهم رغم هزائمهم المعاشة منتصرون.
تكرس التناقض بين المعلن والمحقق في أهداف الجماعة، وظهرت براغماتية الفريق في أدنى مستوياتها، كما ظهرت براغماتية، أو قل وصولية وانتهازية الشخص الفرد في أعلى مستويات جرأتها وعربدتها، حتى أصبح الفرد وبدون تردد يضحي بهدف المجموع في سبيل الحصول على هدفه الصغير وتحقيق مبتغاه الأناني الضيق.
يستند العمل البراغماتي الجماعي بشكل رئيسي على القدوة، فالقدوة الحسنة رافعة إيجابية جبارة تعمل عمل السحر في نفوس أعضاء الفريق، أما القدوة السيئة فهي تنقض بنيان العمل البراغماتي الجماعي من أساسه.
والقدوة سلم ذو درجات متصاعدة، تبدأ أولاها بولي أمر الأسرة الصغيرة، ويجلس على آخرها وأعلاها حاكم البلاد وولي أمرها. ولأجل ذلك فإن درجات القدوة تسند بتسلسلها هذا بعضها بعضا، فلا قوة أو تأثير يذكر لقدوة الحاكم الواقعة في قمة الهرم إلا بقوة ما دونه من قدوات، مهما دنت تلك القدوات وتباعدت.
وفي إجراء أحمق غبي، وعمل براغماتي انتهازي شخصي ضيق، عمد النظام السابق إلى منظومة القدوة في المجتمع فحطمها، وذلك من خلال محاربة وطمس كل بؤر التميز في البلاد ظنا من النظام أن طمس نجوم المجتمع من شأنه أن يعمل على إطالة عمر النظام، ويحقق البراغماتية الضيقة للدكتاتور وعائلته ورجال خيمته. غير أن النتيجة جاءت عكسية، حيث أدى هذا الإجراء إلى فقدان المجتمع منظومة قدوته التي تؤمن ارتباط مكوناته، وتحفظ جدرانه وأسواره، بل ونظامه الحاكم كله. فبمجرد انطلاق رصاصات معدودة في البيضاء المدينة الصغيرة النائية عن العاصمة، تداعت دولة بوليسية عتيدة، وأصبح الشرق الليبي بكامله متمردا على كل قدوات النظام القائمة، لتحل محلها وعلى الفور قدوات وقيادات الظل المعبرة بصمت عن وجدان الأمة والوكيلة الشرعية لها، والتي ورغم ما تعرضت له من ضربات قاسية إلا أنها وجدت في مخزونها القيمي وفيضها الأخلاقي وغطائها الشرعي ما يكفي من القوة لانطلاقها من جوف رمادها انطلاقة أسطورية فينيقية مدهشة.
لعله من المقبول والمعقول جدا ربط كل ما حدث، وبهذه السرعة الفائقة، بفقدان كبراء النظام وركائزه، بدءا من القائد وحتى أمين مؤتمر شعبي أساسي، أية رائحة لقدوة صالحة، بل على العكس من ذلك بدا جميع هؤلاء مجرد وكلاء لسلطة غاشمة كان كل هدف براغميتها الدنيئة هو مجرد ضمان وجودها، مع التجاهل الكامل لهدف المجموعة الكبير السامي.
أدرك مدرس السنة أولى ديمقراطية أنه أسهب كثيرا في تشخيص الحالة، وأراد أن يشرك الطلبة في الجزء الأخير من الدرس، وهو الاقتراب أكثر من المشكلة ومحاولة حلها.
ولكن وقت الدرس الثالث عشر انقضى، وأعلنت لوحة فصل سنة أولى ديمقراطية الذكية تأجيل الشطر الثاني من درس البراغماتية الشائك الخطير إلى الحلقة الرابعة عشر القادمة إن شاء الله.
محمد الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق