الأربعاء، يناير 18، 2012

سنة أولى ديمقراطية"14"


                                                          
سنة أولى ديمقراطية"14"

يتبع الدرس السابق
                          "ومرة رابعة من نحن"
"الليبي براجماتي مثالي، ولكنه يعمل لحسابه الخاص فقط"

لم يعجب الكثير من التلاميذ الثوار إطلاق هذه التهمة على الجميع، وعدم استثناء الثوار من هذه التهمة الخطيرة، فقام أحدهم وقال معترضا :

ــ ليس كل الليبيين على الحال الذي ذكرت يا أستاذ.

ــ ماذا تعني؟

ــ أعني أننا نحن الثوار لسنا براغماتيين خواص كما وصفت، وإلا ما كنا لنصطف صفا واحدا، ونعرض أرواحنا فداء للوطن وإنقاذا له من دكتاتورية وبراغماتية الحاكم الفرد  الذي جعل من الوطن كله مزرعة خاصة له ولعائلته وعصابته.

ــ أجل إن الاصطفاف في معركة تحرير الوطن الذي خاضه الليبيون جميعهم لهو عمل براغماتي جماعي بامتياز، وهو حقا عمل استثنائي فذ سطره التاريخ بأحرف من نور. بيد أنه وبعدما وضعت الحرب أوزارها عاد فيروس البراغماتية الفردية والانتهازية إلى الظهور، مستغلا ما يعانيه الكثير من الثوار من قصور مناعي طبيعي ضده، وكذا خلو المحيط من وسائل مكافحة فعالة له.

كل المخالفات التي ارتكبت باسم الثوار يجب فصلها بالكامل عن سياق الثورة وتبرئتها منها، فلا يمكن لثائر حقيقي صادق فدى الوطن بنفسه أن تطاوعه نفسه لنقض ما بناه من مجد وما سطره من فخار، لا لشيء إلا لإشباع نزوة نفس رخيصة.

المخالفات المنسوبة إلى الثوار كثيرة وكثيرة جدا، وهي تشير بوضوح إلى صلتها بالبراغماتية الانتهازية الفردية المستهجنة، ذلك المرض العضال الذي فشا في الكثير من الليبيين لأسباب كثيرة معروفة.

ظاهرة أخرى من ظواهر البراغماتية الفردية وإن اختلفت كثيرا عن سابقتها إلا أنها على صلة ما بالهوس البراغماتي الشخصي، وهذه الظاهرة هي قيام الكثيرين ممن تضرورا في العهد السابق بالمبالغة في إصدار الفواتير المعقولة وغير المعقولة بمبرر حقية في التعويض عما لحق بهم من أذى ممارسات ذلك النظام. بل إن البعض يقوم بإصدار فواتيره على مجرد موقفه الوجداني المؤيد للثورة!

الكثير من هذه الفواتير غير معقول ومبالغ فيه، وحتى المعقول منها يمكن التأني في عرضه والمطالبة به عن طريق القضاء، وذلك بعد قيام الدولة واستقرارها، لا عن طريق الاعتصامات والتجمعات والمطالبات الملحة التي تضع حصول المدعي الفرد على ما يريد أهم من كل شيء غيره، ولو كان قيام الدولة التي تستنجد بالجميع من أجل مساعدتها على الوقوف.

ــ كل الذي ذكرته يا أستاذ صحيح، ودليل ذلك وقوع الكثير من المنازعات والمشاحنات العنيفة بسبب تناقض موقف مصلحي ضيق لفئة أو جماعة أو حتى فرد مع مصلحة براغماتية ضيقة لطرف آخر.



ــ ما دمت اعترفت بذلك، فنحن إذن أمام مشكلة مركبة!

ــ كيف. ما هذه المشكلة المركبة؟

ــ يتطلب شروعنا في عملية التصحيح والإصلاح المعتمدة بشكل رئيسي على العمل البراغماتي الجماعي ضرورة قيامنا بعمليتين لا عملية واحدة. أولى هاتين العمليتين هو المسارعة  بإزالة آثار البراغماتية الفردية البائسة من أذهان الناس، وإقناعهم بضررها المدمر لكيان الفرد والمجتمع على حد سواء. أما العملية الثانية فهي القيام بتحفيز الناس ودفعهم لتشكيل منظومة العمل البراغماتي الجماعي الخلاق؛ أي عملية هدم لقديم سقيم، ثم تتبعها عملية بناء لجديد مفيد.

ــ  لابد أن ما خضناه من قتال ضد رمز البراغماتية الفردية المقيتة، القذافي، وانتصارنا عليه من شأنه أن يقنع الجميع بأن البراغماتية الضيقة التي مارسناها جميعا ولعقود عديدة لهي مقبرة الفرد والجماعة كلاهما، وأنه لا مناص من البدء وعلى الفور في بناء أساسات العمل البراغماتي الجماعي الخلاق.

ــ وما هي هذه الأساسات الضرورية والفورية البناء؟

ــ أهم هذه الأساسات وأكثرها إلحاحا هو تأمين عناصر القدوة  في المجتمع والاطمئنان إلى نخبته.

ــ كأنك تعني بالقدوة والنخبة أعضاء المجلس الانتقالي والحكومة وقيادات الثوار وغيرهم من قيادات المجتمع وأعلامه.. أليس كذلك؟

ــ بلى، ومن غيرهم؟

ــ ها قد عرفناهم، ولكن ماذا عليهم أن يفعلوا حتى يتأهلوا لهذا المقام الرفيع، ويأخذوا بالبلاد وأهلها من ساحة معركة الوطن الواحد، والتي فاقت فيها أكوام النفوس المحطمة والخواطر المنكسرة بفعل أنياب الوحش البراغماتي الشخصي أكوام وأنقاض ما خلفته آلة الحرب المدمرة، إلى ساحة دولة قوية البنيان منيعة الحياض بفعل اصطفاف مواطنيها اصطفافا براغماتيا جماعيا خلاقا؟

ــ  ما عليهم إلا أن ينهجوا ذلك النهج الذي نهجته قبلنا دول عديدة، فتحولت من دول متأخرة يعربد فيها التخلف بكل صوره، وتعشش فيها العلل والأمراض، إلى دول معافاة متحضرة.

ــ هل من مثل يا أستاذ على هذه الدول؟

ــ أقدم مثل اليابان، وأحدث مثل الصين والنمور الأسيوية.

ــ كيف. فصل أكثر من فضلك؟

ــ أدركت اليابان في أواخر القرن التاسع عشر تفوق أمريكا وأوربا، فلم تنتظر طويلا وتضيع وقتها في التنظير وممارسة التجارب، ولكنها تصرفت بطريقة براغماتية فعالة، وقامت على الفور بإرسال من يجلب لها بذور التقنية والتقدم من وراء المحيط، ثم زرعت هذه البذور في أرضها، وسقتها بالمركب البراغماتي الجماعي السحري، فتحولت وبسرعة فائقة إلى مارد حضاري جبار. ثم، وبفعل العدوى، تسللت تلك البذور إلى حيث كانت ترقد تلك القطط الأسيوية الهزيلة،  فاستيقظت من سباتها الطويل المنهك، وأصبحت بفعل ذلك المركب البراغماتي نمورا أسيوية عملاقة.

ــ  ومَن غير اليابان وجيرانها النمور الأسيوية يا أستاذ؟

ــ يُحدِّث التاريخ أن زعيم الصين الشيوعي حتى النخاع، دنج زياو، ورئيس الدولة المليارية الأنفس، القديمة النشأة والتاريخ، الممتدة الأطراف، العتيدة النظام، المشبعة أيديولوجيا حتى التخمة، قام بزيارة دولة سنغافورة ذات الخمسة ملايين، فلم يخطر بباله ما فعل أحد زعماء دولنا العربية الكبيرة عندما قام بابتلاع جارته الصغيرة في ليلة واحدة لمجرد أنها تبرجت أمامه مظهرة ما أنعم الله عليها من زينة، أو حاول أن يمارس ذكاء فطريا خبيثا ظاهره فيه الوحدة العربية وباطنه يعتمل برغبة السيطرة وابتلاع الآخر. كلا لم يفكر التنين الأصفر العملاق في هذا أبدا، ولكنه على العكس من ذلك امتلأ دهشة وإعجابا بما رآه في جارته الصغيرة من تقدم وازدهار، ولدرجة جعلته يغير وعلى الفور سياسات ذلك العملاق الصيني الثقيل المترهل، ويلح في إقناع من حوله من قيادات الحزب الشيوعي الصيني بالحل البراغماتي غير الشيوعي، والبدء وعلى الفور بمحاكاة القزم السنغافوري الشقي فيما يقوم به من حركات براغماتية شقية ولكنها شيقة ذكية. وما هي إلا سنوات معدودة، وإذا بالصين السقيمة تصبح دولة معافاة عظيمة، وربما تتطلع لتصبح الدولة الأقوى والأعظم كونيا.
     
ما كان ليحدث كل ذلك أبدا، لولا ما توفر في دماء أولئك الناس، حكاما ومحكومين، من ذلك المركب البراغماتي السحري العجيب، إما بمقتضى السليقة والفطرة، أو عن طريق جلبه وتعاطيه لدعم مناعة عقولهم، وتحفيز عزائمهم، للقيام بهذا الجهد الحضاري المشهود.

قام مسؤولونا بزيارات كثيرة، كالتي قام بها المسؤول الصيني، ورأوا الكثير من مثل ما رآه دنج زياو، غير أنهم، ولعدم توفر مركب البراغماتين، في صورتيه الموهوبة والمكتسبة لديهم، رجعوا وكأنهم لم يروا شيئا. ولا زلنا كما ترون لم نحقق شيئا. فهل نحن بحاجة إلى عدد ستة ملايين جرعة من لقاح البراغماتين الجماعي الفعال، ولو كان ذلك على حساب ما نحتاجه من غذاء وكساء.
لابد لي أن أعترف بأنني وكأي ليبي ابتلاه الله بمعايشة نظام غاشم لم يكتف بمجرد تملك رقاب الناس وسوقهم سوق الدواب، ولكنه عمد إلى منظومة تفكيرهم فعبث بمكوناتها وهز ثوابتها فانحرفت مؤشرات بوصلاتها واختلت معادلاتها حتى أصبحت حواسيب عقولنا ترى قيمة الكسر 1 على 6000000 أكبر من 1 ومصلحة النسمة الواحدة ترجح مصلحة ملايين النسمات!!.

ألم يكن من وجهة نظر الدكتاتور وعائلته وحواريه وبعض المغرر بهم من المواطنين البسطاء، جعل ليبيا كلها جمرا، والتضحية بستة ملايين ليبي في الحرب الأخيرة أقل أهمية بكثير من مجرد تنحي شخص واحد من فوق كرسي حكم فقد حق الجلوس عليه من يوم اعتلائه له منذ أربعة عقود.

أجل يؤسفني أن أعترف لكم بأنني أحد المعانين من هذا الاختلال العظيم والانحراف الجسيم الذي تلوِّح به تلك المعادلة، وإنني إزاء ذلك أراني في حاجة ماسة إلى إعادة تأهيل وتصحيح زوايا نظري، بل وانحراف واختلال تفكيري.

لا أعترف بذلك إظهارا لتواضع أجوف، بل لأضع نفسي في طابور الليبيين الكثيرين الذين حالهم كحالي، ولأهيب بكل واحد منهم، وقد تجلت الصورة وزالت موانع التصحيح والإصلاح وعوائقه، بأن يأخذ في اعتباره بأنه الآن مسئول مسئولية كاملة على تصحيح اختلال كل المعادلات وإعطاء الكسر السابق قيمته الحقيقية، وعندها فقط يمكن أن نعلن ليبيا دولة خالية من فيروس البراغماتية الفردية، وعندها فقط  سنرى ليبيا هذه سنغافورة أو دبي.

أما إذا لم يتحقق ذلك وبقينا كلنا براغماتيين مثاليين نعمل لحسابنا الخاص فقط، فسيكون كل واحد منا شريكا في جريمة الخيانة العظمى لليبيا التي مارسناها إثنين وأربعين عاما مكرهين، وسنمارسها من الآن فصاعدا، وبكل أسف، متعمدين مختارين.

محمد الشيباني


ليست هناك تعليقات: