السبت، يناير 21، 2012

سنة أولى ديمقراطية 15


              
                       ومرة خامسة، من نحن؟

الجواب: نحن خريجون أعظم وآخر كلية استبداد في العصر الحديث.

جعلت اللوحة الذكية السؤال عاليه والجواب عليه عنوانا للدرس الخامس عشر من دروس سنة أولى ديمقراطية، ثم أتبعته بالعنصر الرئيسي لهذا الدرس، وهو:  


نحن من حضننا مستبدا، وعايشنا استبداده أزيد من أربعة عقود، ثم ثرنا عليه. هل انتهى كل شيء؟


وحتى يتمكن المعلم من تقريب الفكرة إلى أذهان الطلبة، ذكر لهم رأي طبي مفاده أن كل ما يتعرض له الجسم الحي من حوادث ضارة وعلل منهكة، وإن شُفيَ منها الجسم  وبرأ، إلا أن أثرا ما من تلك الحوادث والعلل يبقى في ذاكرة ذلك الجسد  ونسيجه.

ثم أضاف:

أما إذا ما اتخذنا ذلك الأثر القائل: كيفما تكونوا يُولّى عليكم، وسيلة تشخيص أخرى، فإن تشخيص الحالة يقترب من تمامه، ويصبح الحكم على الجسم الليبي بأنه جسم يعاني من علة تفريخ المستبدين، ومعايشة الاستبداد حكما مكتمل الجوانب.

وعلى الفور نهض أحد الطلبة الثوار، وأعلى صوته قائلا:
قد تحررنا وحررنا الوطن!

وقال آخر:

لن نعود للقيود


ابتسم المعلم ابتسامة يخفي وراءها شيئا فطن له الحضور، ثم أردف قائلا:

الأمر الذي أجمع عليه كل مطلع خبير، أننا بقدرة قادر وتدبير حكيم تم إنقاذنا من سطوة شخص من بني جلدتنا، تمكن في غفلة منا من استدراجنا إلى شرك مكره وخبثه، حيث أحكم قبضته علينا وسبانا سبيا جماعيا ليمارس علينا شتى ألوان ظلمه ومختلف أصناف استبداده وتسلطه في ملحمة ابتزاز جماهيري فريد، دامت أزيد من أربعة عقود، وهي فترة كانت أكثر من كافية لتقسِّمنا إلى فئات رئيسية ثلاث:

ــ فئة قليلة ساومها القرصان على مسخها مقابل بذخها، فقبلت وتحولت في يده آلة يصنع منها وبها ما يريد من نماذج استبداده وتسلطه، وحتى أصناف ملهاته، وهي نماذج وأصناف كان يستدعيها الدكتاتور المريض دونما كلل وملل من مستودع بارانوياه المكتنز بألوان هذا المرض النفسي الرهيب، مرض جنون العظمة.

ــ فئة أخرى لم تطاوعها كرامتها على الدخول إلى مزاد بيع الذات، وسوق نخاسة الجماهير، ورفضت الانصياع للقرصان مقابل أي ثمن. وهي بموقفها الرافض هذا غدت قذى في عين الدكتاتور، فأفسدت عليه مزاجه المجنون، وعكرت صفوه البارانويي.

ــ أما الفئة الثالثة، وهي الأكبر والأهم، فشكلت ما يعرف بالكتلة الصامتة، أو غير ذات الشحنة، والتي بصمتها المريب هذا، أطالت كثيرا وقت اللعبة الدامية وغير المتكافئة بين القرصان المجنون والقافلة المختطفة.


ظهرت آثار سياط الاستبداد التي امتدت طولا وعمقا، على كل فرد من أفراد هذه المجموعة، وصنعت جروحا غائرة، تجاوزت الملامح والمظاهر إلى حيث مكنونات الأنفس وأعماق المدارك والمشاعر.

وبقدر ما تدعو ندوب سياط الاستبداد العميقة في المدارك والعقول إلى الشفقة على المبتلين بها، فإنها تدعو وبدرجة أكبر إلى ضرورة ردم هذه الندوب وعلاجها بوسائل العلاج والتصحيح المختلفة.

والندوب التي صنعها الاستبداد في النفسية الليبية كثيرة ومتنوعة، إلا أن أخطرها هو عدوى مرض الدكتاتور نفسه، والمتمثلة في سلالات مرض البارونايا التي انتشرت في الكثير من أفراد القافلة المختطفة المنكوبة.

منذ بواكير العصر الأسود للدكتاتور، أصيب الكثير من الليبيين بفيروسات الاستبداد والتسلط التي كان يقذفها القرصان من جوفه، ووصلت درجة العدوى بهذا الفيروس حدا من الخطورة جعل أفراد القافلة المختطفين المأسورين داخل حظائر الأسر الجماهيري الرهيب يضربون بعضهم بعضا، لا حبا في القرصان أو ولاء له، ولكن مجرد محاكاة مرضية لملامح القرصان المنتصر، وهي ظاهرة مرضية  معروفة يؤكد أطباء النفس وجودها وخطورتها.

الكثير من القرارات الهوجاء الخطيرة التي اتخذها الدكتاتور ما كان له أن ينفذها أبدا لو لم يمهد لها بجرعات بانورياه التي حقنها، وبدرجات متفاوتة، في أنفس وأفكار ضحاياه الذين لم يبرأ البعض منهم من هذه العلة حتى وهو يرى القرصان نفسه المريض بداء العظمة يدرك أخيرا أنه مريض وأنه ليس عظيما، ودليل ذلك انخراطه في نوبة توسل مذلة من أجل إطالة عمره يوما واحدا.


أنتجت حالة وقوعنا بين مطرقة القرصان وسندان بأسنا فيما بيننا الشعور بقبول الوضع الاستبدادي واستمراء ومعايشة المستبد، مع علم الجميع بأنهم قطعان وبيادق يحركهم القرصان في مربعات لعبته كيفما يشاء.

قبل ذلك اليوم القدري الذي انطلقت فيه شرارة الثورة، لم يكن يبدو على وجه القرصان تجاعيد الشيخوخة الموحية بقرب تقاعده، كما لم يبد على ندوب سياط الاستبداد المستقرة في أعماق نفوس الغالبية العظمى من الليبيين أي تغير يشي باضمحلال وسم القابلية للاستبداد واستمرائه ، بل إن مراصد السياسة والاجتماع استخدمت هذه الندوب والوسوم، واتبعت مساربها، وهي ترسم بريشتها الاستراتيجية خريطة مستقبل الليبيين ومآلات أحوالهم السياسية.   

وصمة القابلية للاستبداد ملتصقة وظاهرة بوضوح على معظم الليبيين، ووسومها البارزة الصارخة لا تخطئها العين. كما أن حادثة الثورة ضد هذا الاستبداد وسقوط رأسه وأركانه مؤكدة بألف دليل ودليل.

هذه الحالة المتناقضة الطافحة بالهواجس هي التي تبرر طرح السؤالين الآتيين:

ــ هل عملية الثورة على القرصان المستبد وهزيمته تعني  قيامنا بعملية إزالة رحم يستحيل بعدها تكون أي جنين استبدادي، وبالتالي انقطاع سلالة المستبدين من شجرة عائلة السياسة الليبية، وضمان كامل بعدم تكرر ولادة أي مستبد جديد يحمل جينات وصفات ذلك القرصان الملعون؟

ــ هل حادثة قيامنا بالثورة تكفل لنا البرء الكامل وتنقية دمنا وتصفيته من أي عدوى بفيروس القابلية للاستبداد؟

وفجأة أظهرت اللوحة الذكية أصواتا تحذيرية صاخبة، وأضواء حمراء متوهجة، في إشارة منها إلى خطورة الموضوع وصعوبة مادته وحرجها.

ولأن المساحة الزمنية للدرس الخامس عشر من دروس سنة أولى ديمقراطية لا تكفي لاستيعاب محاولة الإجابة عن هذين السؤالين الخطيرين، أحالت اللوحة الذكية ذلك إلى الدرس السادس عشر القادم بعون الله.

محمد الشيباني
 




ليست هناك تعليقات: