البطء مَطل، وقتل للأمل، وإحياء لذكرى هبل
منذ تفجر ثورة
فبراير وحتى تاريخ مقتل القذافي في 20ــ 10 ــ 2011، ظهر هبل في أوضح وأٌقبح صورة
له، حيث تمثل في شخص اسمه معمر القذافي رأى في نفسه نصف إله. وبرغم ما أحاطت به هذه
الشخصية نفسها من ألغاز وأحاج وغموض، ونسجت من ذلك رداء أسطوريا ألبسته
صاحبها، إلا أن هذه الشخصية وصاحبها ظلا حبيسين مكان يضيق وزمان تتزايد سرعة نفاده بازدياد وقع ضربات
الثوار على حصن ذلك الدكتاتور المتداعي، وكان كل يوم يمر على كيان هبل المادي المتآكل
يومئ بوضوح إلى زواله المحتوم وفنائه المؤكد.
وكأي طاغية، وعند
حلول ساعة سقوطه، سقط هبل، وزال وفنى، وتنفس كل الليبيين الصعداء، وتأكد للجميع
بشرية نصف الإله، القذافي، وهو أمر أكدته بوضوح تلك الجثة الواهية الهامدة الملقاة
على الأرض، وقد بدت عارية من كل مجد مزور وهيلمان كاذب، بل وتعرت عورة تلك الجثة وفقدت
حتى من يعيرها مزقة من رخيص قماش!
ظننت كما ظن
الكثيرون مثلي أنه بمجرد سقوط كيان هبل المادي سوف يرتفع ويعلو كيان الحق والعدل،
ويعم البناء والإصلاح أرجاء البلاد، ويهوي تبعا لذلك كل معلم من معالم الجهل
والفساد والطغيان، وتتلاشى رائحة هبل بالكامل، وتتهدم جميع معابده، ويزول أثره من
حيز كل مكان، ومن مدى كل زمان، بل وحتى من خطرات كل وجدان.
طيبون كثيرون مثلي،
رأوا ما رأيت، فقصدوا مقر القذافي بباب العزيزية، وأعملوا فيه هدما وتحطيما، ظانين
أن معركتهم الحاسمة هي مع القوالب الاسمنتية وأعمدة النور وأبراج الاتصالات، تلك
المعركة التي سرعان ما انجلت عن انتصار معاول الهدم وتشامخها، وانهزام وخور وشلل سواعد
البناء وتكسرها، بل ربما وصل الأمر إلى حد فتور عزيمة التغيير، وخور إرادة الثورة
ذاتها.
آخرون غير طيبين، ومع
علمهم أن معركة النار والبارود والدخان قد انتهت، وبأن معركة البناء قد حانت، إلا
أنهم امتشقوا السلاح، وقاموا بإشهار أسلحتهم المسروقة في وجه المبادئ والقيم المعنوية
السامية، من مثل العدالة، والنزاهة، ونصر المعروف، ومحاربة المنكر، وصون المقدرات،
وغيرها من مبادئ لا تقوم للوطن قائمة بدونها.
تلك هي الصورة
التي بدا عليها الشارع وعوام الناس، أما الصورة التي بدت عليها الحكومة ممثلة في
دواوينها وشركاتها ومؤسساتها فقد طغى عليها مشهد التباطؤ وعدم الحسم والتأجيل غير
المبرر للكثير من الأعمال، حتى تحول ذلك إلى ما يمكن أن نطلق عليه مطل المقتدر!
موظفو الدولة الذين
يعدون بمئات الآلاف جميعهم يتقاضون مرتبات في مقابل ما يقومون به من أعمال، غير أن
أعمالا كثيرة من صميم مسئوليات هؤلاء الموظفين طالها المطل المشار إليه، ولم تنجز!
إن اخطر مشكلة
تواجهنا الآن، وهي مشكلة انتشار السلاح، والتي يظهر على علاجها بطء واضح، يرتبط
القضاء عليها ارتباطا وثيقا بتجمع واصطفاف موظفي الدولة، وحولهم أعضاء المجالس المحلية، وقادة الكتائب المنضوية تحت إمرة الدولة، ومنتسبو الأحزاب، وكافة مؤسسات المجتمع المدني، وشروع كل هذه الفئات في تضييق الدائرة على المعربدين الضاربين بأمن المجتمع وسلامته عرض الحائط.
منذ بضعة أيام أخرج أحد سارقي الأسلحة ممن يقيمون بجواري ما عنده من مخزون سلاح، وأخذ يمزق به هدوء الليل محتفلا بخروج أخيه من السجن بتهمة تتعلق بالمخدرات، وعربد هذا الأفاق ما شاء له أن يعربد تحت سمع وبصر الجميع؛ فلا الجيران كلفوا أنفسهم حتى مجرد الإبلاغ عنه لدى إحدى الجهات الأمنية، ولا أعضاء المجلس المحلي للمحلة حاولوا ولو مجرد تعكير صفو عائلة ذلك المجرم وأخيه. ونام المعربدون المتطاولون على أصداء لعلعة رصاص بنادقهم، منتشين بخمر انتصارهم، متواعدين على جولة أخرى من جولات عربدتهم ومجونهم وهوسهم.
آخرون لا يمسكون بالسلاح وهم يعربدون، وفي وضح النهار يعتدون على الطرقات والفضاء العام ويستحلون ما ليس لهم، ضاربين بالقوانين والضوابط العمرانية والبلدية عرض الحائط.
ما الذي يمنع رجال
الحرس البلدي من تأدية أعمالهم، وكبح جماح هؤلاء العابثين، والذين وهم إذ
يعبثون بالقانون لا يستندون إلى حق يدعم فعلهم، كما لا يحملون في أيديهم سلاحا يُخشى
خطره، بل كل ما يستندون إليه هو تيقنهم بعدم وجود من يحمل القانون ويأمر بتطبيقه
من مثل رجال الحرس البلدي، ورجال الضبط القضائي في عمومهم.
من ذا يجرؤ على
البناء في سعة الطريق إذا ما واجهه موظف رسمي له صفة الضبط القضائي، وبيده القانون
الواضح الصريح، ولو كان هذا الموظف الرسمي ناصحا ولائما لا آمرا ومانعا؟!
المؤكد أن الغالبية
العظمى من المخالفين سوف ترعوي وتذعن للقانون الذي يؤمنون بشرعيته، ويدركون قوته،
ويتيقنون بأن يوم تنفيذه آت لا محالة.
ما الذي يمنع قوة
الشرطة من رجال مرور وأمن عام وغيره، ممن يبعث
مجرد تواجدهم بلباسهم الرسمي الهيبة في نفوس المخالفين، ويزرع الأنس في
نفوس الخائفين، ما الذي يمنعهم من مجرد قولهم: نحن هنا؟!
ما الذي يمنع
شركات ومؤسسات كثيرة من تصحيح أوضاعها، واستغلال ما توفر لها من حرية في تطبيق
معايير الجدوى التي حرمت منها طيلة سنوات اللاجدوى؟
مصلحة خطيرة كمصلحة
الطيران المدني، وبما تملكه من جيش جرار من الموظفين وسقف صرف مريح، تعجز عن
الوفاء بالتزاماتها الأساسية، حتى يعرض عجزها المريب المشين هذا طائراتنا لعقوبات دولية
غير مبررة، وتمنع بسبب هذا التقصير من التحليق في الأجواء الأوربية كلها، وتتحمل
تبعا لذلك خسارات مادية جسيمة، فضلا عن انحطاط وتشويه سمعتها!
كيان استثماري
عملاق بحجم شركة الاستثمارات الخارجية، والتي يفترض فيها تصدرها وريادتها للاستثمار
المجدي، لا زالت ولأسباب غير معروفة تمارس سلوكا غير مجد يعبر عنه بوضوح تسمرها في
مقر أسكنها فيه نظام اللاجدوى السابق، هناك في بيداء الهيرة، حيث تتحطم كل مؤشرات ومعايير النشاط الاستثماري، بل وتنعدم
جدوى مجرد السكن والتواجد البشري البيولوجي في بقعة منقطعة عن كل عمران.
إن الإنسان العاقل
يعجز عن فهم التجمع والانصراف اليومي المتكرر لما يقرب من المائتين من الموظفين
العاملين في مجال المال والاستثمار في مكان لا يمت بصلة البتة لما يقومون به من
عمل!
يحدث كل هذا وغيره،
وتستمر اللاجدوى، وذلك برغم دفعنا لأبهظ فاتورة إزالة نظام اللاجدوى وإقامة نقيضه،
نظام الجدوى والمنطق والأصول.
يحدث هذا السلوك
اللامنطقي واللامجدي رغما عن أنف موظفي الشركة أنفسهم، والذين تبرأ معظمهم من هذا
السلوك بتوقيعهم على ميثاق رفض الاستمرار في عبادة هبل في معبده بالهيرة، ذلك
المعبد الذي بناه كهنة هبل السابقون المنهزمون، والذين لا يزال بعضهم محتفظا بود
هبل ومرتلا لتسابيحه هناك عند قدم الجبل!
وبنفس اللاجدوى في
شأن المقر، تسلك الشركة طريق اللاجدوى والمماطلة في اتخاذ القرارات الملحة والمؤجلة
بتعمد مريب إلى أجل غير معلوم وغير قريب!
تلك مجرد عينة من ظاهرة
التباطؤ والمطل غير المبرر، والذي من شأنه أن يجر خسائر مادية جسيمة، إلا أن ما
يجره هذا المطل من خسائر معنوية أكبر بكثير!
كل ليبي دفع نصيبه
في فاتورة الحرب على هبل. وبالمقابل فإن كل ليبي يتشوق بحرارة إلى قطف ثمرة
انتصاره، وله كل الحق في ذلك.
ثمرة انتصار
الليبي على هبل اللذيذة جدا، هي ثمرة معنوية تتمثل في شعوره بالانتصار على الظلم
والجهل والفساد واللاجدوى، وكل طقوس عبادة هبل، وهي ثمرة أعز وألذ وأثمن بكثير من مجرد
رؤيته لعلم متعدد الألوان جديد يرفع، أو شعارات رنانة بها نلوح ونصدع!
ما قيمة هبة الألف
دينار البائسة الرخيصة وأنا أجبر على عبادة هبل وإحياء ذكراه المؤذية المؤلمة،
وذلك بزيارة معبد هبل بالهيرة كل يوم، وتجشمي السفر اللامجدي مسافة تزيد على مائة
وستين كيلو مترا، حيث أرتل هناك تسابيح هبل مع جموع المسبحين المحتفظين بود هبل،
أو المجبرين على ذلك؟!
ما قيمة الألف
دينار أمام مظاهر العربدة وخرق الأعراف والقوانين من قبل مدعي الثورية والمتاجرين
بها، والذين لا تخطئهم العين وهم يركبون السيارات المنزوعة اللوحة والملطخة بأصناف
الشعارات(البايتة) المنتهية الصلاحية؟!
ما قيمة الألف
دينار وجبال القمامة تسد طريقنا، ورائحتها تزكم أنوفنا، ودخانها يسد رئاتنا؟!
ما قيمة الألف
دينار، وطائراتنا التي نركبها تفتقد لمعايير وشروط السلامة، معرضة إيانا لخطر
الموت المحقق، وقبله لسبة الناس واحتقارهم لنا؟!
البطء والمماطلة
وعدم الحسم والتأجيل غير المبرر، كلها أعمال خطيرة يجب تكييفها قانونيا ومحاسبة من
يرتكبها، وذلك بإعفائه من الوظيفة التي
يتقلدها، وإفساح المجال لعناصر جديدة أكثر حماسا وأسرع حسما. وذلك على أقل تقدير.
"البطء مطل، وقتل للأمل، وإحياء لذكرى هبل"
ترى هل تصلح هذا الكلمات
لتكون عنوان الدرس التاسع والعشرين من سلسلة دروس سنة أولى ديمقراطية؟
آمل ذلك.
محمد الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com