رأس ورؤوس .. وجه ووجوه .. عين وعيون!
على مدى الأربعين
عاما الطويلة وزيادة، وعلى مدى مساحة ليبيا الكبيرة، وربما أقصى وأبعد، وفي كل
شارع، وفي كل زقاق، وفي كل ميدان، وفي كل سوق، وفي كل رواق، وفي كل مدرسة، وفي كل
مستشفى، وفي كل مكتب، وأينما يممت وجهك، لا ترى إلا رأس ووجه دكتاتور ليبيا
السابق، القذافي، ولا ترى إلا عينيه الجريئتين النهمتين!
وبمجرد اختفاء هذا
الرأس، ومغادرته لحيزه الشاسع الواسع، شرعت آلاف الرؤوس والأوجه والعيون لآلاف
المواطنين الليبيين المرشحين للمؤتمر الوطني، تأخذ مكانها في ذلك الحيز الواسع
الرحيب.
حقا ما أبشع
الدكتاتورية، وحقا وصدقا كم كان نصف الإله القذافي مضيقا للمكان الواسع، ومختزلا
للزمان الطويل، ومطفئا لآلاف العيون والوجوه، بل لملايينها!
ولكن لماذا نبش
الماضي، والكلام على رأس الدكتاتور ووجهه وعينيه، وقد تواروا جميعهم، وإلى الأبد؟
ذلك لأنني كلما
وقعت عيني على الصور الكثيرة من صور الدكتاتورية والفساد والتسلط في البلاد، رأيت
ذلك الوجه الضخم للدكتاتور السابق وقد تربع في خلفية تلك الصور، محركا إياها
بواسطة خيط رفيع.
كما أنني تابعت
المراحل كلها لرحلة صورة رأس الدكتاتور ووجهه وعينيه، وذلك منذ أن أطل علينا، قبل
أكثر من أربعة عقود، متصنعا البراءة، ومتوسلا القبول والتأييد، تماما كما يطل
علينا أصحاب الصور الآن، ويتوسلون الدعم والقبول.
سيستغرق الليبيون مدى
زمنيا ليس بالقصير من أجل أن يتقنوا المهمة الخطيرة التي من خلالها يتم التعاقد
فيما بينهم وبين الحاكم، والذي تخترق
صورته الناعمة الأماكن الحساسة من عقولهم قبل أن يتحسسوا بحواسهم جوارح الحاكم
الخشنة. وسوف يكون للملامح الظاهرية للحاكم في إتمام عملية التعاقد الخطيرة هذه
دورا بارزا مهما.
صورة الحاكم وملامحه
الناعمة، وجوارح الحاكم الجارحة الخشنة، كانا درسين بليغين من دروس الحقبة
الدكتاتورية السابقة، وربما كانا أيضا من الدعائم الرئيسية التي وضع نظام الطغيان
عليها بنيانه.
ها هم الحكام
المرتقبون يضعون أمامنا صورهم، وما ظهر من ملامحهم الناعمة، طالبين منا مقابل ذلك
التوقيع على العقد الاجتماعي بيننا وبينهم، مؤجلين تحسسنا لجوارحهم إلى حين.
حقا إنه امتحان
صعب، ولكن لا مناص من خوضه.
فيما يلي بعض
الأسئلة لمراجعة ما سبق دراسته من أمر صورة الحاكم وأثرها فينا وذكرياتنا معها،
وأسئلة أخرى استرشادية لما يتحتم علينا عمله مع آلاف الصور التي حلت محلها:
ــ لماذا دأب
القذافي على إزاحة كل الوجوه، وربما تشويهها، وتعمد إظهار وجهه هو فقط دون أي وجه
آخر سواه؟
ــ هل وجوه
الليبيين على هذا القدر من القبح، وذمامة الخلقة، حتى يطمرها القذافي في تراب النسيان العمر كله؟
ــ هل كان معمر
يظهر علينا بوجهه الكبير جدا تحببا إلينا، أم تخويفا وإرهابا لنا؟
ــ هل استخدم معمر
الأثر النفسي الدعائي الخطير الذي تحدثه الصورة الكبيرة الوحيدة أسوأ استخدام، واختزل
ألوان الطبيعة اللامتناهية العدد في لون يتيم واحد، فسبب بذلك عجزا جينيا في أعين
الليبيين، جعلهم يرددون حتى الموت: معمر وبس؟
ــ هل هذا القصور الذي
لازمنا في معرفة الوجوه والألوان وتمييزها من بعضها هو الذي جعلنا نمشي في طريق
هلاكنا مغمضي العيون؟
ــ هل كان للوجه
الكبير الواحد المتسمر في كل مكان من أثر في استرقاق الناس، وسلبهم إرادتهم، ومنعهم
من حرية الاختيار التي منحها خالقهم لهم؟
ــ هل ساهم الوجه
الواحد المتجهم للقذافي في تردي الحالة النفسية لليبيين، وعمل على غرس الإحباط في
نفوسهم، وجعلهم يعتقدون أن الدنيا كلها ما هي إلا شارع واحد، ذو اتجاه واحد، أوله الرحم
وآخره اللحد؟
ــ هل يعزى تعلق
بعض الليبيين بالقذافي بعد سقوطه، وهو الذي فعل بهم ما فعل، إلى مجال التأثير
القوي لذلك الرأس والوجه والعينين، والذين كانوا بعض أدوات القذافي في السيطرة على
الآخرين؟
ــ هل يفلح
الليبيون بعد كل أهداف الرأس الماكرة الذكية الموجهة إلى مرماهم، في لملمة أفراد
فريقهم الوطني المنهك المبعثر، وترجيح كفة الستة ملايين رأس على كفة الرأس الواحد؟
ــ
.................................؟
ــ
......................................؟
وعلى الجانب الأخر
من ورقة الأسئلة الصعبة، أسئلة أخرى أهم، وهي:
ــ هل كل هذه ألآلاف
من الوجوه والعيون التي قضت كل عمرها سجينة دهاليز الدكتاتورية المظلمة، تستشعر،
الآن، هذا الانعتاق والتعرض المفاجئ لألق شمس الديمقراطية، وتتمكن من تجنب صدمة التغيير
الخطير؟
ــ هل تستطيع هذه
العيون التي انفتحت للتو أن ترصد وبسرعة أبعاد الزمان والمكان الجديد الذي ولجته،
وتتكيف معه، وتنجو بذلك من الحول المزمن الذي كثيرا ما يصيب أعين الحكام، عند
تحولهم المفاجئ من مكان إلى مكان.
ــ هل تستطيع هذه
العيون أن تنجو من فتنة مائدة الأضواء، فتتجنب تخمتها ؟
ــ هل تتعرض إلينا
هذه العيون والوجوه الكثيرة والمنتشرة الآن في كل مكان من أجل أن تقدم إلينا بلسما
يداوينا مما كنا نعانيه من التحديق الإجباري لوجه وعين دكتاتور سئمناه، أم أنها
ستعاود النظر إلينا من اجل تنويمنا، وإعادة نفس المشاهد الدكتاتورية المؤلمة المقززة؟
ــ هل تطهرت هذه
العيون من أدران المكر والخبث والخنس، واغتسلت تلك الوجوه من غبار النفاق متعدد
الطبقات والألوان، ثم استحمت بعطر البراءة وبلسم الشفافية؟
ــ هل بإمكاننا أن
نرى في هذه العيون والوجوه أثرا ما من غبار الحرب المقدسة على الاستبداد والطغيان،
وكذا علامات إكبار وإجلال لأرواح الشهداء الذين خاضوا تلك الحرب، والذين هم من اقتلع
رأس ووجه وعيون الدكتاتورية المقيتة، وأفسحوا المجال لملايين الهامات فارتفعت، ولملايين
العيون فانطلقت؟
ــ هل سيبقى أصحاب
هذه الصور على نفس الهيئة التي يظهرون بها علينا الآن أول مرة، وهم في غاية
اللطافة والتأنق. وهل ستحافظ أعينهم على إرسال نفس القدر من موجات المغازلة التي
منها الآن تتدفق؟
ــ هل هناك أي خيط
رفيع تصعب رؤيته بين الصورة الكبيرة جدا التي كانت تشغل المكان، وبين كل أو بعض
الصور التي خلفتها؟
ــ
....................................؟
ــ
............................................؟
كل هذه الأسئلة، وربما
غيرها كثير وكثير، تطرحها علينا هذه المرحلة الخطيرة التي نعبر، وتجبرنا على الإجابة
عليها قبل أن نختار ونقرر.
إنني قضيت عمري
خائفا من رأس القذافي المتطاول، ومن وجهه المتمدد، ومن عيونه النهمة الجريئة
المثيرة، ولن يزول خوفي هذا إلا إذا تأكد لي أن الرؤوس والوجوه والعيون التي حلت
محله لا تمت له بصلة، ولا تربطها بالدكتاتورية أية وشيجة.
محمد عبد الله الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق