هكذا كنا منذ عام مضى
تُرى ما الذي قد جرى، فأحدث ما نرى؟!
في مثل هذه الأيام
من عام مضى، عجزت اللغة التي بها نتفاهم، ووهنت الألسن التي بها نتخاطب، عن مجاراة
قلوبنا في نبضها، ومشاعرنا في دفقها، وبسط القدر لنا لوحه، فأضحى خفق القلوب دعاء
لا يرد، وتوق المشاعر أمرَ سيدٍ ليس له ند.
كتبنا على لوح
القدر طلبات عديدة خطيرة كبيرة، لم يصدق أكثر الناس تفاؤلا تحققها، ولكن قيوم
السموات والأرض الذي أحصى ما علمناه، وذكر ما نسيناه، وهو المحيط بغيب ما سوف
نلقاه، تكرم علينا، فحقق لنا كل ما طلبناه.
في مثل هذه الأيام
من عام مضى تجمد مؤشر بوصلاتنا، فما عاد يجهد نفسه ليبحث عن أقطاب
الأرض وجهاتها، فقطب التسلط والدكتاتورية والاستبداد كان ضالة كل بوصلة يحملها أي ليبي. لا شرق كان لدينا، ولا غرب، ولا فيدرالية، ولا غنائم، ولا تعويضات، ولا كراسي، ولا
أطماع رخيصة، ولا حسابات ضيقة.
في مثل هذه الأيام
من عام مضى تلاشت كل الخطوط والفواصل بين مدينة وأخرى، وبين قبيلة وأخرى. كان
الفاصل الواحد الذي يقسم ليبيا هو خط جبهة الحرب بين الحاكم المستبد، والشعب
المنتفض.
في مثل هذه الأيام
من عام مضى كانت أسماؤنا واحدة، وكان عدد حروف أبجديتها خمسة أحرف، هي عدد حروف
كلمة ليبيا، وكانت هذه الحروف رغم قلتها أكثر من كافية لتستوعب كل أسمائنا وأسماء قبائلنا
ومدننا وأسماء آبائنا وأمهاتنا، وحتى أسماء أحبائنا وحبيباتنا.
في مثل هذه الأيام
من عام مضى كان قاموس سياستنا لا يحوي سوى كلمتين، هما: ليبيا حرة، وكانت هاتان
الكلمتان في منتهى البلاغة والاكتناز، حتى أننا لم نحتج آنئذ لأي كلمة من الكلمات
التي يضج بها قاموس السياسة البائس؛ من مثل علمانية، أو ليبرالية، أو دينية، أو
مدنية، أو غيرها.
في مثل هذه الأيام من عام مضى كانت كلمتي: الله أكبر، تتقدم كل واحد منا، فتزيل من طريقه كل عقبة قدم، أو عُجمة لسان، أو غربة مكان. كانت كلمتي الله أكبر كلمة سر بها نفتح مغاليق القلوب، ونزيل عقبات الدروب.
في مثل هذه الأيام
من عام مضى كانت أسماؤنا شفافة بسيطة رشيقة، لا تحمل سوى بصمة عين، ونبضة قلب. كانت
أسماؤنا خالية من ثقل اسم وظيفة قبلها، أو رتبة بعدها، أو انتساب لحزب أو فرقة أو جماعة أيا كانت مشاربها.
في مثل هذه الأيام
من عام مضى كنا أغنى الناس، وذلك لأننا استغنينا عن كل ما نتقاتل عليه الآن،
واكتفينا بتلبية حاجة نفوسنا المجنحة في فضاء الحرية، ومشاعرنا الغارقة في لذة رعشة
يقظة الانتعاش بعد السبات المنهك الطويل، فشبعت أجسامنا رغم الجوع، وأشرقت وجوهنا رغم الضنى، ورأينا البركة تتخلل القليل
فتكثره، وتغشى البسيط فتزكيه.
في مثل هذه الأيام
من عام مضى كان الحق قبلتنا وضالتنا، وكان الباطل خصمنا وطريدتنا، ولم يكن بين
الحق والباطل أي تداخل أو تماس، فبرأنا من كل ريب، وتفادينا كل فتنة. آنئذ كان
الدرب مستقيما، والغاية واضحة، والأشرعة متوازية، والربان واحد.
في مثل هذه الأيام
من عام مضى كنا نتنادى من على مسافات بعيدة هامسين، فيسمع كل منا الآخر. لم يكن
حولنا ضجيج، ولم يكن في آذاننا غير صدى أهلنا في الشرق مأيهين بإخوانهم في الغرب،
وصدى الإجابة السريعة الصادقة من قبل أهل الغرب لإخوانهم في الشرق، ولم يكن الوادي
الأحمر سوى حيز من أثير عنده يتلاقى الصوتان، فيتعانقان ويصنعان عرسا، يعم أنسه
كامل الوطن.
تُرى ما الذي جرى،
فأحدث ما نرى؟
أما الذي جرى،
ويشهد عليه كل الورى، فهو:
ــ نجانا الله من
الذي أمسك ببلعومنا ووضع عليه سكينه الحاد المسمم.
ــ آمننا الله من
خوف، وأطعمنا من جوع.
ــ ألان الله لنا
قلوب خلقه؛ فوقفوا معنا في حربنا وسلمنا.
ــ أذهب الله عنا
كل الذي كنا نحذره من ابتزاز وأطماع.
ــ نزع الله فتيلة
كل فتنة، وأخمد كل حريق.
ــ أطفأ الله جمر
أسلحة كثيرة مبعثرة هنا وهناك.
ــ سهل الله علينا
تدبير إدارة مواردنا النفطية، قوام عيشنا، وثمين كنزنا.
ــ ألان الله قلوب
الكثير منا، فأعلوا أصواتهم بالدعوة إلى المصالحة.
ــ ألان الله عريكتنا
فاصطففنا وتجمعنا من أجل انتخاب أخيارنا، كي يتولوا أمرنا.
ــ توحدت الأفكار
والآراء والأقلام على رأي واحد وهدف واحد، هو إصلاح ليبيا.
ــ ................
ــ .........................
ــ .........................
ــ ......................................... الخ.
إلا أنه، ورغم كل
هذه النعم المسداة، والخيرات المهداة، ظهر فينا الكثير من ناكري الجميل، فأبدلوا
نعمة الله نقمة، وبركاته لعنة.
أحوال كثيرة تغيرت
وساءت، وذلك بسبب تغير سيئ طرأ علينا.
تُرى هل يقف كل
واحد منا أمام المرآة، ويرصد ما اعتراه من سوء؟
لابد أن هناك بعض السوء.
هيا بنا نزيله.
محمد عبد الله الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق