الخميس، يوليو 19، 2012


كراسة مواصفات

ما من مهمة عظُم أو قلَّ شأنها، إلا ولها نطاق وعناصر معروفة محددة تتكون منها، كما ويغلفها وقت محسوب يجب إنجازها خلاله.

ولعل من أعظم المهام وأخطرها، هي تلك المتعلقة بالشأن العام، بدءا من إدارة مرفق بلدي فرعي، وانتهاء بإدارة أمر الدولة كلها. ويزيد هذه المهام أهمية وخطورة كونها جزء من كيان الدولة وسيادتها، ولا يمكن عرضها في سوق الأعمال التجارية المعروفة، أو إسنادها لمقاولين خواص. 

عند احتدام التنافس على تولي المناصب العامة، يغمرنا المتنافسون بمشاريعهم وخططهم الكثيرة، وكلما كان المتنافس واضحا في طرحه لخطته، ومقدما أفضل العروض لأداء مهمته، يكون أوفر حظا في الاستحواذ على أصوات الناخبين، ومن تم نجاحه في تولي المنصب المتقدم إليه.

الخطة التي يقدمها المترشح ويلتزم بها، مع ما يضاف إليها من ضوابط وشروط أخرى يضعها المختصون وأجهزة التخطيط والرقابة في الدولة، هي كلها مجتمعة تصلح لإعداد كراسة مواصفات المهمة العامة المعروضة، والتي تطرح بعد استيفاء كافة جوانبها في عطاء عام شفاف، يتقدم إليه كل من يأنس في نفسه الكفاءة، مدعوما بما يؤيد ذلك من أدلة.  

وعند رسو العطاء على أفضل المتنافسين، يقوم طرفا التعاقد بإبرام عقد الخدمة المطلوبة محل كراسة المواصفات، على أن يتضمن هذا العقد تفصيل أداء هذه الخدمة، ومدة إنجازها، وكذا تبعات الإخلال بأي من شروط هذه المهمة.

في عالم الأعمال التجارية من النادر أن يتجرأ مقاول غير ذي مقدرة، ويورط نفسه في مهمة يدرك مسبقا من خلال إطلاعه على كراسة مواصفاتها أنها أكبر منه، وأن احتمال نجاحه فيها ضئيل جدا.

إبان عصر سلطة الشعب سيئة الصيت وتصعيداتها المفضوحة، لم يكن أحدا يهاب أي وظيفة عامة، فتكالب الكثير منا على تولي هذه المهام، وكان ما كان من أمر الفشل الذريع الذي حققته أجهزة الدولة المختلفة. لم تكن لتلك المهام كراسة مواصفات محددة ودقيقة، كما كان الولاء للنظام السياسي القائم، هو أهم المؤهلات المطلوبة لأولئك المتقدمين لهذه الوظائف، والذين يغفر لهم مجرد انتمائهم القبلي، أو عضويتهم في مكتب اللجان الثورية كل تقصير يرتكبونه حيال المهمة المكلفون بها، مهما كان هذا التقصير.

كانت الوظائف العامة أبقارا تحلب ولا تأكل، وإذا ما نفقت تلك الأبقار، فإنها توارى بدون أية مصاريف في مقبرة التجربة الشعبية والنظرية العالمية ودولة الجماهير.

ذلك كان حال المهام العامة المتعلقة بحاجة المواطن العادي ومستقبله، أما المهام العامة ذات الطابع الأمني، فإنها تشبع دراسة وتمحيصا، وتوضع لها ألف كراسة مواصفات، كما أن المقصر في أدائها يناله أضعاف ما ينال غيره من المقصرين في غذاء أفراد المجتمع وصحتهم وسكنهم وتعليمهم.

عندما علمت بأن عدة آلاف من الليبيين تقدموا للترشح للمؤتمر الوطني، ورأيت تنافسهم المحموم على مجرد مائتين من المقاعد، والتي يتربع على كل مقعد منها جبل من المسئوليات العظام التي تنتظر العضو الذي يقوده قدره إلى هذا المكان. عندما علمت ذلك تيقنت بأن أبقار التصعيد وأثدائها الموسوقة لبنا، لا زالت في أذهان الكثير من المترشحين للمؤتمر الوطني.

هذه الصورة سوف تختلف بالكامل، كما أن هؤلاء الآلاف الذين تسابقوا على الترشح سوف يتقلصون إلى مئات، وذلك عندما توضع كراسة مواصفات لكل مهمة على حدة، ويوضع إلى جوارها كأس ذهبي ومفتاح زنزانة.


أتاحت لنا تقنيات العصر من نظم إدارة وحواسيب ووسائل اتصالات الكثير من التسهيلات التي تمكننا من إعداد كراسة مواصفات المهام الحكومية العامة ومتابعتها وتقييم أداء حامليها يوما بيوم.

عند توفر كراسة مواصفات كل مهمة من المهام العامة، وشيوع ثقافة مقاولة منضبطة، وسياسة إدارة عطاءات شفافة ومحكمة، واعتماد المبدأ الذهبي "1+1=2" في كل شأن من شئوننا العامة، يتلاشى ذلك الشعور المرضي بحب الظهور، والصراع على الكراسي، بل ربما اضطرت الحكومة إلى منح حوافز وإغراءات من أجل حث المواطنين على التقدم لهذه الوظائف.

كراسة المواصفات لكل مهمة ووظيفة عامة من شأنها أن تكبح الشعور القبلي المنفلت الذي نعاني منه، وبدل أن تدفع القبيلة بمن هب ودب من أفرادها للاستحواذ على الوظائف العامة، تقوم القبيلة بتأهيل أبنائها القادرين على المنافسة، فينشأ عند ذلك الفرد وقبيلته الشعور بضرورة بناء الموظف القادر على المنافسة، المحافظ على سمعته وسمعة قبيلته، وسوف يختفي إلى الأبد التكتل القبلي المخزي، والذي غايته هو منح الأصوات لابن القبيلة أيا كان حاله.

سوف تتنافس المدن والقبائل على إعداد أبنائها القادرين على تولي الوظائف العامة، تماما كما تتنافس على إعداد فريقها الرياضي، وذلك لنيل كأس الفوز على ما سواها من قبائل.

لا يمكن لخطط التنمية والتطوير العملاقة أن تنجح ما لم يتكون بناؤها الضخم من لبنات من مهام محددة منتظمة متراكبة خالية من أي فراغ يسببه تقصير موظف غير مؤهل أو غير مبال يترأس مهمة من المهام التي تحويها خطة التنمية تلك.

أتمنى على أعضاء المؤتمر الوطني، وكذا أعضاء الحكومة القادمة، أن يحاولوا إيلاء هذه الفكرة  اهتمامهم، وهي خطوة أقل حسناتها هو كبح جماح المتزاحمين على الترشح مستقبلا، ذلك التزاحم الذي جعل من بعض الأكفاء منا النأي بأنفسهم عن الازدحام حيث لا يليق الازدحام.

محمد عبد الله الشيباني









ليست هناك تعليقات: