الأربعاء، يوليو 25، 2012



ليس حبا في نبش سيرة شخص أفضى وما عمل إلى الله، ولكنها محاولات متواضعة لمسح غبار تراكم على أكفنا ووجوهنا، فنكر بعضنا بعضا، حتى قاتل بعضنا بعضا.

في مقالاتي السابقة التي تعرضت فيها لأمر المصالحة، والمقالة الأخيرة بالخصوص، والتي بعنوان" هل من طريقة أخرى لاستئصال الورم الخبيث"، ظن بعض القراء أن هدف المقالة هو مجرد النيل من القذافي ونظامه. كلا، فذلك أمر فرغنا منه، ومن المسف إطالة النبش فيه، ولكن الذي لم نفرغ منه بعد، هو إزالة ركام الدكتاتورية من أذهاننا فتصفو، ومسح غبارها من على عيوننا فتجلو، وغسل أكفنا ووجوهنا من أدرانها، فيعرف بعضنا بعضا، ويأنس بعضنا البعض.

أشياء كثيرة فرقت الليبيين البسطاء الطيبين، خلال الأعوام المشئومة الاثنين والأربعين من حكم القذافي.

آخر وأخطر هذه الأشياء هي الحرب التي أشعلها المتهم الوحيد نفسه صاحب السطوة، ومورث التركة، القذافي، وذلك ليس من أجل أشياء تهم الليبيين، في حاضرهم أو مستقبلهم، وإنما من أجل شيء واحد يهم صاحب السطوة وصاحب التركة نفسه، ولم يكن ذلك الشيء سوى كرسي القذافي، فقط لا غير!

الذين عاصروا حقبة القذافي كلها، وأنا أحدهم، يستطيعون بتنشيط بسيط لذاكرتهم أن يتيقنوا أن كل عناوين عمليات التنافر والانقسام والقطيعة التي دقت أسافينها في النسيج الليبي الرخو البسيط، كانت كل حروفها تكتب بمداد واحد لونه أخضر، وبأبجدية واحدة لا تتسع حروفها إلا لتمجيد شخص واحد ونظام واحد والدعاية له.

أجل، فنحن الليبيين، وخلال أربعة عقود، كنا ندمن التنافر والاختلاف حتى التشظى، وذلك ليس بسبب شيء يهم ليبيا وأبناءها، ولكن لأسباب تهم القذافي وكرسي القذافي، وعائلة القذافي!

أول مرة أشعر فيها شخصيا بحالة التنافر والتشظي تلك، وأتحسس فيها المجال الكهربي الصاعق لكرسي القذافي، رغم بعده المكاني عني، كانت في بداية السبعينات، عندما لاحظنا على بعض زملائنا في الجامعة المنضمين حديثا لرابطة الطلبة الوحدويين الناصريين العرب، والتي تخرج منها الرعيل الأول من الثورجيين السبتمبريين، بعض التغيرات.

أحد هؤلاء الزملاء الشباب، يلوح بيديه في أحد كافتيريات جامعة بنغازي، ويصيح: من لم يكن "فتحاويا" فليس منا!
كان ذلك في العام 1973.

أحدثت هذه الصيحة شرخا عميقا ابتلعت حفرته كل ما كان بيني وبين هذا الزميل من علاقة طيبة وود وثقة، ومن حينها صار زميلنا هذا في جانب، ونحن غير الفتحاويين في جانب آخر، حتى إذا مرت العقود من السنين، وجاء العام 2011، وإذا بالزميل نفسه، وقد ابيض كل شعره، يلوح بيديه مرة أخرى، ويصيح: معمر وبس!

سطوة القذافي ومجال كرسيه الصاعق هو الذي أغرى زميلنا البدوي البسيط، وهو في سني الشباب الأولى، حتى فعل بصيحته الصاعقة المدوية الأولى فينا ما فعل، وسطوة القذافي ومجال كرسيه هو الذي فتن زميلنا رغم شيبته، وجعله يرجح كرسي القذافي على مصير ستة ملايين ليبي، بمن فيهم زميلنا نفسه وأسرته المشتتة، وربما النازحة الآن!

كرسي القذافي هو الذي صنع شرخ 7 أبريل76، كما صنع كل الشروخ اللاحقة، والتي كان أوسعها وأعمقها الشرخ الذي قامت على جانبيه حرب الشهور التسعة بين إخوة الوطن والدين!

الحرب الليبية السابقة ليست قبلية، ولا عقائدية، ولا اقتصادية، ولا حتى سياسية، وإنما هي حرب كرسي، وشأن فردي عائلي محض خاص!

عجبا، كرسي واحد، يجلس عليه شخص واحد، ومن حوله بنوه الأثيرون لديه، فيحدث مجالا صاعقا تسقط في أتونه بلد، ويموت من أجله عشرات الألوف. حقا إنها لسطوة ساحرة فاتنة، وحقا إننا نحن الليبيين، لا سيما من لم يفهم الدرس بعد، لسذج بسطاء!

رَبُّ كرسي السماوات والأرض أغضبه ما فعلته كراسي المتألهين من طغاة البشر، فجعل لسقوطهم موسما وجنازة ومقبرة جماعية، وكان لسقوط كرسي القذافي بالذات صوتا مميزا، وأثرا ظاهرا محسوسا. أفلا يكفي هذا وحده لإعادة النظر في كرسي الساحر القذافي، وإزالة ما بين أعيننا وبين ذلك الكرسي من غبش؟

ولأن هذا الكرسي مميز، ولأن بعضنا لم يفلح في إزالة الغشاوة من على عينيه، فلم ينقطع مجال ذلك الكرسي الصاعق بانتهاء وجوده المادي، بل امتد أثر هذا المجال، وامتد شرخه حتى قسم الليبيين إلى شطرين، شطر مقيم في ساحة المعركة التي لا يزال دخانها يسمم المكان، وشطر آخر نازح يلاحقه في مكان نزوحه ما خلفه الكرسي ومجاله الصاعق من بأس شديد بين إخوة الدم والدين والوطن.

حقا إنه لوضع مخز أن يشطرنا كرسي، ويمزقنا هوى فرد واحد بسيط منا، ولا سبيل للخلاص من هذا الحال المخجل المحرج إلا بتعبئة شروخ تلك السطوة وندوب تلك التركة ببلسم المصارحة والمسامحة، الطريق الأقصر للمصالحة.

المصالحة عمل وجداني منبعه القلب، ورافداه المصارحة والمكاشفة من جهة، والعفو والمسامحة من الجهة الأخرى، ولابد أن الفريقين المتخاصمين، نازحين ومقيمين، يعلموا أن حيزا كبيرا من ساحة الخصام بين إخوة الوطن والدين، كان يملؤه كرسي القذافي، وأن هذا الحيز لا يملؤه الآن سوى هاجس نفسي باهت، ينفخ فيه المتورطون اليائسون الذين ليس من مصلحتهم التصالح بين أهل الوطن الواحد.

نفحات هذا الشهر الكريم الباعثة على التسامح والتصالح ونشر الود تملأ المكان، فلا تتجاهلوا فيضها؛ فتُحرموا فضلها.

أزيحوا الغشاوة من على عيونكم، تروا بعضكم أوضح!

محمد عبد الله الشيباني

ليست هناك تعليقات: