إلى الرئيس المقريف: تهنئة سطرها التاريخ، ووقع عليها ناموس تداول الأيام
المواقف هي أبرز أسطر التاريخ!
قبل خمسين عاما، وفي بداية الستينات، جمع المقريف وأحد زملائه المتخرجين من الجامعة يومَ تخرج واحد، حيث تملكهما في ذلك اليوم شعور مشترك كله أمل في لعب دور مهم في بناء بلدهما المستقل حديثا، المملكة الليبية، تلك الدولة الموعودة برفاه اقتصادي وتطور اجتماعي تؤكده الاستكشافات النفطية الواعدة، والتي بدأت طلائعها من ينابيع زيت أسود تتحرر من سلاسل أحقاب الدهور وأثقال جبال الرمال، لتتحول إلى كنوز من ذهب أصفر بحجم تلك الرمال.
تجاوب القدر مع تطلعات الشابين الجامعيين، المقريف وزميله، وتساوق الإيقاع الحالم لسيمفونية قيام الدولة الوليدة، مع لحن نجاح هذين الشابين وتحصلهما على شهادة عليا، مكنت كلا منهما من اعتلاء منصب حكومي مرموق برتبة وزير، وهو ما زاد أملهما تجنحا، وحماسهما تدفقا وانطلاقا.
في بداية السبعينيات، تقلد المقريف وزميله وظيفة سامية برتبة وزير في حكومة شابة يرأسها عسكري شاب. وفي أول يوم يجلس فيه هذان الشابان في المكتب الوزاري، وفي غمرة نشوتهما وفرحهما بالمنصب الرفيع تراءت لهما ليبيا بعد أربعين عاما، وبالتحديد في بداية عام 2011، على الصورة التي عليها دبي في نفس ذلك التاريخ، وربما أجمل.
مرت الأربعين عاما، وجاء العام 2011 حاملا معه صورة مختلفة تماما، حيث أدى التخلف المتنوع المتراكم، والفساد المعربد المتعاظم إلى تفاقم مريع للأوضاع، قذف بالبلاد في حرب شرسة بين الحاكم وجنوده من جهة، وعامة الشعب الليبي من جهة أخرى، وكادت رقعة الحرب أن تتسع وتحرق كل رقعة الوطن، ولكن الله سلم.
وهنا وضع التاريخ قلمه، وأطلق صيحة قوية مرعبة ضمنها سؤاله الاستنكاري الاستفهامي الخطير:
ما مدى مساهمة كل واحد من هذين الرجلين، المقريف وزميله، وغيرهما من تكنوقراط ليبيا السبعينات والثمانينات والتسعينات، وحتى عشرة الألفية الثالثة في كل ما جرى؟
السؤال ثقيل بثقل السنين الأربعين، وهو ثقيل أيضا بثقل جبال الظلم والقهر والتخلف التي صنعتها السلبية واللامبالاة والجبن غير المبرر للكثير من الليبيين الذين ساهم كل واحد منهم في بناء وارتفاع تلك الجبال التي اتخذ الدكتاتور القذافي من كهوفها قلاعا احتمى بها، وسجونا حبس بها الحلم الليبي وقيده.
ومن سخرية الأقدار، أو قل حكمتها، أن تتحول جبال الظلم تلك إلى رافعة عملاقة اتخذت من يوم 17 فبراير نقطة ارتكازها، ومن الغضب العارم للجماهير المظلومة ذراعا لها، ثم حركت بها الواقع البائس المرير، ودمرت عرش طاغية، جعل من بلد كامل ملهاة يتلهى به هو وأولاده وأزلامه وتابعوه.
عندما أسند القذافي للمقريف منصب رئيس ديوان المحاسبة في بداية السبعينيات، لم يكن القذافي آنذاك صاحب كتاب أخضر ولا نظرية عالمية ثالثة، ولا جماهيرية عظمى، وإنما كان رئيس نظام ثوري طموح من الممكن للمقريف وزملاؤه أن يعملوا معه من أجل بناء دولة ليبيا الحديثة.
وشيئا فشيئا بدأت تظهر على القذافي أعراض ملك الملوك، وأصبحت العلاقة بين رئيس ديوان المحاسبة والسلطة العليا يشوبها الكدر، كما لم يكن هناك سلطة برلمانية، يستمد منها رئيس ديوان المحاسبة قوته، ويرفع إليها تقاريره، بل كانت السلطة، كل السلطة، مركزة بيد العسكر قادة الانقلاب، أو بالأحرى، بيد العقيد قائد أولئك العسكر وملك الملوك لاحقا.
الأرقام مرآة حادة، بل هي أحدُّ المرايا، وأكثرها جرأة على إظهار ما يعتري وجه الناظر إليها، ولو كان هذا الناظر ذا مزاج حاد، ويستخدم أحيانا المسدس من أجل إجبار الناظرين إليه بالتغزل في عوار عينيه وذمامة خلقته.
غطى العوار العيون، ولا يمكن لشخص في نزاهة وتدين وكفاءة المقريف، وهو يحمل مرآة الأرقام الحادة جدا، أن يسلم من رصاص الدكتاتور، والذي أطلق بعضه للتو على الدولة كلها، بكل مؤسساتها وقوانينها، وأعلن الثورة الشعبية، التي أرَّخ يوم ولادتها المشئوم، قبل حوالي أربعين عاما، ليوم وفاة الدولة الليبية، أو على الأقل دخولها في غيبوبة طويلة المدى.
لو قُدِّر لنا أن نقرأ ردة فعل من وقفوا أمام مرآة المقريف الرقمية في ذلك الزمن المبكر، من عسكر وثوريين وتنابلة سلطان، ممن كانوا يقودون الدولة الليبية، وما خطه تجهم وعبوس وجه أولئك الناظرين ذميمي الخلقة على سطحها البراق، وما قذفت به عيونهم من كره وحقد على كل من كان يحمل مثل تلك المرايا الرقابية الفاضحة، لرأينا في ذلك الوقت المبكر جدا ملخصا وافيا لما جرى خلال العقود اللاحقة جميعها، بل ربما تمكنا من رؤية شلال الدم الذي غطى في عام 2011 كامل سطح المرآة.
انطلق الرصاص على المقريف ومرآته، فلم ينحن الرجل لجمع حطام هذه المرآة، ويقوم بتثبيته وترقيعه كيفما اتفق، كما دأب على ذلك الانحناء والترقيع الكثير من زملائه التكنوقراط الذين لم يفلحوا البتة في إرجاع المرآة المهشمة إلى وضعها السليم، ولكنهم أفلحوا في جعل صورة وجه الطاغية البشع، وعيونه النافثة كبرا وخبثا وخيانة وغدرا، صورة وجه ملائكي، ينز براءة، ويسكب طهارة، ويتألق هيبة وجلالا.
كلا. ثم كلا!
هذا ما نطق به الرجل، وبلغة صريحة، لا تعرف المواربة، ولا تحتمل التأويل، وجاهر بالدعوة إلى إسقاط الدكتاتور وهو في عنفوان سنوات المراهقة المؤدية لمرحلة ملك الملوك، وكان ذلك في آخر السبعينيات وبداية الثمانينيات.
ببراءة الأطفال، تساءلت آنذاك، ماذا لو لم يجد القذافي من يصنع له المرآة التي يريد، ولم يجد خليفة للمقريف تخالف المقريف. أجل، فالأرقام هي الأرقام، ومراياها هي ذات المرايا التي لا تمت بصلة قربى، أو وشيجة دم لأحد، مهما علا شأنه، وعظم بأسه، ولكن الخلاف في معادن الرجال!
جاء الجواب على تساؤلي البريء في منتهى الإحباط، وذلك عندما رأيت زملاء المقريف ممن يشغلون وظائف وزارية عليا، يتقبلون كل ما يتقيؤه القذافي الشاذ من أفكار، بل ويروجون لها، ويتكلفون ويتعسفون في ليِّ ذراع الحقيقة، وتسفيه ما تعلموه من علوم، وكل ذلك لا لشيء إلا لإثبات أن القائد المنظر، يرى ما لا يراه الناظرون.
قال المقريف: كلا، وأوقف عمره كله على هذه الكلمة، ذلك العمر الذي جعله القذافي في بؤرة انتقامه، ووجه له كل أسلحته، وحرَّض عليه مرتزقته، ولكن حامل مرايا الأرقام، المقريف، ظل يمسك بمرآة الحقيقة، ويقذف بشعاعها الثاقب عين الطاغوت وأعوانه، حتى تمكن أخيرا من فقئها.
أعود إلى تساؤلي الطفولي البريء: ماذا لو تكررت لفظة "كلا" التي قالها المقريف، على لسان قافلة التكنوقراط الذين مسح فيهم ذلك الطاغية الشاذ كل أوساخه وقاذوراته.
ذكورٌ ستينيون وسبعينيون كثر، قضوا كل عمرهم ركوعا أمام أباطيل وترهات ذكرٍ مثلهم، يعرفون بطلان ما يقول، ولم نسمع أحدا منهم ينبس ببنت شفة، وهو يرى الوطن يقوده إلى الهاوية حاكم شاذ، لم يجد من يقف في وجهه، ويقول له: كلا.
هي إذن كلمة "كلا" التي تجبرنا دائما بالعودة إليها، عندما نحاول أن نعيد قراءة التاريخ، ونقوم بعقد المقارنات العادلة المفيدة بين رجل قال: لا، وآخر أخرسه جبنه، وربما طمعه عن البوح بها.
لو قال كلمة "كلا" هذه، الصف الأول من التكنوقراط الذين استعان بهم القذافي في بداية عهده المشئوم، ثم تبعهم بقولها الصف الثاني، وحتى الثالث، لوفروا علينا بعملهم المجيد هذا، شلال دماء آلاف الشباب الذين ذبحتهم انفجار شحنات كلمات "كلا" المتراكمة المنحبسة، والتي أحجم عن قولها في الوقت المناسب أجداد هؤلاء الشباب، من زملاء محمد يوسف المقريف، ولكن محمد يوسف المقريف قالها.
أهنئ المقريف تهنئة مضمخة بعبق التاريخ المشرف، ومعجونة بلذة ونشوة تداول الأيام التي شفت صدورنا من ظالمينا، وحققت لنا أمانينا.
التهنئة موصولة أيضا لرئيس وأعضاء المؤتمر الوطني الانتقالي على ما أدوه من أعمال نبيلة، توجوها بتجاوبهم مع اشتراطات لعبة الديمقراطية، وذلك بقيامهم بتسليم السلطة إلى خلفائهم.
محمد عبد الله الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق