الجمعة، سبتمبر 14، 2012



 قرأت فعرفت فاندهشت  

كلما علمت جديدا أو أدركت خافيا من خفايا نفسي، أو فيما حولي من أشياء التي أعلم بعض ظاهرها وأجهل كل باطنها، تملكني شعور أوله دهشة، ووسطه رضا وافتخار، أما آخره فيضعني في حالة يمكن تسميتها بحالة الخدر الذهني، حيث تختلط لدي مشاعر الدهشة والذهول وعدم القدرة على استيعاب ومتابعة تيار خفايا وأسرار بواطن تلك الأشياء، والتي تمدد لنا سطحها الظاهري فتعلقنا به وسرنا فوقه حقبا وآمادا طوالا قبل أن يأذن الله لأناملنا الطرية الذكية باختراق قشرة هذا الغشاء ونزع أول الأغلفة المتراصة تحته والتي لا يمكن لأحد أن يلمَّ بعددها أو يلامس عمقها، سواء هناك حيث عالم الفيمتو ثانية والنانو متر الذي تتضاءل فيه الأشياء حتى تغيب عن وعينا تصاغرا ودقة، أو هنالك حيث عالم الجزر المجرية والحقب الضوئية الذي تتعاظم فيه الأشياء حجما وحركة حتى تخترق سقف خيالنا وتتجاوزه، بل إنها تغيب في عالم اللانهاية .

عجيبُ العالم المجهري أنه رغم ضيقه ودقيق أحجام كائناته إلا أنه يشابه عالم  الأفلاك في آفاقه ومتاهاته، وفائق سرعة الأجسام الهائمة في فضائه، ذلك الفضاء الغامض الذي كثيرا ما ألجأنا ونحن نحاول شرح ظاهرة من ظواهره أو تفسير سلوك بعض ساكنيه ، إلى استخدام الإفتراض والتقدير في انتظار أن يأتي اليقين .

 أما عجيبُ عالم الأفلاك فإنه رغم اتساعه المذهل إلا أن كائناته تتمدد وتتعاظم  ولدرجة ضاق بها هذا العالم الأسطوري  حتى ألجأها هذا الضيق لأن تبحث لنفسها عن عالم أوسع عجز عقلنا حتى عن مجرد تسميته فأطلقنا عليه اسما زاد في تلغيزه ، وذلك عندما أسميناه عالم اللانهاية، وهي تسمية تشي بقصورنا حتى عن مجرد منح هذا العالم  اسما محددا له.     

أجل وكأننا بعد هذا المجهود الشاق الذي بذلناه وفائق تقنية ما نستخدمه من أدوات في ارتياد عالم الضآلة وعالم الضخامة على السواء، لا نجد بدا من الإعتراف بأن الطريق الذي نتعجل الوصول إلى نهايته يتمدد أمامنا كلما زادت سرعة خطانا عليه وإلحاحنا في طلب نهايته !

أمارس من حين لآخر هواية الترحال بخيالي عبر فضاء الوجود المطلق المثير، محاولا إطفاء حرَّ فضولي ولو بافتراضي ملامسة أبعد نقطة كان قد لمسها أصبع مكتشف في فضاء جسمي الشاسع الممتد، وكذلك أبعد نقطة في فضاء الكون اللامتناهي تسلل منها شعاع واه فقنصه مسبار.

مارست هذه الهواية أكثر من مرة  واستطعت أن أرى  ولو من بعيد جدا  أقزام العالم النانومتري البالغة الصغر والمتخذة من جزء المليار من المتر قصورا باذخة لها في ذلك العالم السحري المحير، كما استطعت أن  أرى في الطرف الآخر من الوجود عمالقة العالم الفلكي الأسطوري هائمة في فراغ لا نهاية له ولا قرار، متخذة من مدى ما يقطعه الضوء في ملايين ومليارات السنوات الضوئية أمكنة ودروبا لها.

 وعلى الرغم مما أتاحته لنا طفرة المعرفة التي أعذرت كل متذرع بجهل، إلا أنني كلما حاولت أن أستبرأ من جهلي بقرينة حب المعرفة واللهاث ورائها، متطفلا لا محترفا، أراني ازددت جرما جراء زيادة أدلة جهالتي، والتي تزداد التصاقا بي بازدياد معرفتي .

كنت للتو قد فرغت من قراءة موضوع بملحق مجلة العربي العلمي  2  /  2009والمعنون بعنوان " الماء، السائل الذي لا نعرفه " حيث أورد كاتب المقال ما توصل إليه أخيرا مركز بحثي أمريكي عندما قام برصد حركة الماء الذي نشربه وهو يتخلل نسيج أجسامنا مؤديا لعمليات حيوية وذلك بالإشتراك مع جزئيات حيوية أخرى مثل البروتين.

شبَّه التقرير حركة وشكل جزيء البروتين لحظة ارتباطه مع جزيئ الماء بحركة وشكل راقص الباليه  حيث ينتني جزيئ البروتين مكتسبا شكلا مميزا يكون أساسيا لقيامه بوظائفه الحيوية والتي لا يمكن له أن يقوم بها إلا عند اتخاذه ذلك الشكل الملتوي ووفق رقصة دأب على ممارستها في كل مرة صافح فيها جزيئ الماء ذاك منذ أن تقاسما الإثنان أداء هذا الدور الأزلي المولد، الأبدي البقاء  .

أثارني هذا التقرير الراصد لرقصة واحدة من الرقصات المقامة على خشبة المسارح الحيوية في غيابات أجسامنا دون انقطاع، وأراني من خلال كوة ضيقة ذلك المشهد البديع الرهيب من عديد المشاهد اللامتناهية التي يزدحم بها جسدي، متخذا وسيلة ايضاح له جرعة من ماء مهين دأبت على عبِّه وحقنه داخل جوفي السنين الطوال، ولم يخطر ببالي البتة أن هناك في تلك الأماكن الضيقة والظلمات الحالكة مسارح باليه ومهرجانات رقص يلعب فيها هذا الماء دور البطولة  مع مواد حيوية كثيرة مرتبطا بها تارة ومنفصلا أخرى وفي إيقاع منتظم ورقصة خالدة لا تقوم للحياة قائمة إلا عليها  .

 وللأمانة، ما كنت أعرف قبلا عن الماء سوى أنه سائل رقراق أتناوله عبر فمي لأطفئ به عطشي وليأخد طريقه بعد ذلك عبر مسارب وطرق ومحطات كثيرة في جسدي سمعت عنها الكثير ولم ألمس منها أو أرى إلا ما كان قد ظهر وانبرى  .

 وما ان تمكنت وبعد جهد ليس باليسير من استيعاب هذه القصة الأسطورية، والتي لولا شاهد العلم عليها ما كانت لتجد على وجه الأرض من يسمعها فضلا عن أن يقبلها أو يعقلها ، حتى فاجئني التقرير بما هو أجل وأعظم، ذلك أن حفلة الرقص تلك قد تم تصوير مشاهدها بواسطة آلة تعتمد استخدام نبضات فائقة القصر من أشعة الليزر لرصد عملية الإرتباط تلك بين جزيئ الماء والبروتين وفي مدى زمني قدره "بيكوثانية" والتي تعني جزء من تريليون من الثانية ! أي أننا إذا أردنا أن ننجز هذه المهمة فما علينا إلا أن نمسك بالثانية الواحدة الخاطفة السرعة الدقيقة القوام ونقسمها ألف ألف ألف ألف شظية ثم نمسك ببضع شظيات منها كانت قد احتوت المشهد وأحكمت عليه قبضتها، متخذة من أصابع تلك الكاميرا الخارقة  أصابع لها .

ولك أن تتصور تلك الأجواء المحمومة لتلك المعارك التي  تدور رحاها داخل أجسامنا على مدى العمر من ارتباط وانفصال واتصال واختزال، والتي تتخذ من الذرات المتناهية الصغر جنودا وأعتدة لها ، ومن الكهارب مراكب تمتطيها ، ومن شظايا الثواني المنسحقة مدى وشوطا زمنيا ينظم سيرها .

ترى ماذا يكون حالي لو انتقلت في رحلتي هذه ، وبسرعة ، إلى نافذة أخرى لأرى منها زاوية من زوايا الكون السحيق، والتي تتحول فيها البيكو ثانية إلى سنة ضوئية ، ويتحول فيه النسيج الحيوي المجهري إلى جزيرة مجرية، وتتحول فيه رقصة الباليه إلى حركة حلزونية لعناقيد ممتدة من المجرات العملاقة تطوف في فضاء لم نتمكن حتى الآن إلا من رؤية شظية صغيرة منه . ليس لي إن حدث ذلك إلا أن أعيد كتابة عنوان هذا المقال .. ليصبح قرأت فعرفت فاندهشت  لأضيف عليه .. وبالله آمنت .

قد يقول بعض من تبعني على مضض في رحلة طويلة كهذه : ما جدوى أن نذهب بعيدا ونحن  هنا في القريب جدا نصارع العلل والأمراض بكل أنواعها وأصنافها ، ونكابد المشاق للخروج من براثن التخلف والضياع ؟
سؤال وجيه ويحتمل عديد الإجابات ، إلا أنه لا تحضرني إلا إجابة واحدة عنه، وهي  أنني عندما أقوم بتلك الرحلة الإفتراضية الرخيصة التكاليف أعود بكنز عظيم يقضي عني ديونا كثيرة وبلسم قويم يداوي لدي عللا خطيرة . ألا وهو عرفاني بحجمي وحجم الكائنات الآدمية والأرضية الصغيرة القريبة مني ، فتزداد المساحة بيني وبين الآخرين، ويحد التوتر في داخلي وما حولي، ويتمدد هامش العذر، وحيز البراءة ، وينكشف غشاء الغفلة .. ويدب في نفسي شعور صادق لا ريب فيه بأن للكون إله تتصاغر أمامه كل الآلهة  المصطنعة والتي تشكل السبب الأكبر لكل علة نعانيها وكل مصيبة نكابدها .

محمد عبد الله الشيباني

ليست هناك تعليقات: