تستور يا
سيدي الدكتاتور!
الدكتاتور
العربي في كل بلاد العرب فعل ما يوجب الانتقام منه، وحتى إذا كان هذا الدكتاتور
طيبا جدا، ولم يفعل من أفعال التسلط والدكتاتورية سوى استحباب وإدمان الجلوس على
كرسي الحكم، ومكوثه العقود الطوال على رقاب العباد، ثم قيامه بتوريث ملكه لذريته
من بعده، فإن مجرد فعل المكوث هذا يستوجب الانتقام من هذا الدكتاتور عند تهاوي
أركان سلطته أيا كان سبب هذا التهاوي.
مَنَّ
الله علينا، ورأينا ما لم نكن نتوقع من سقوط عروش دكتاتورية عديدة كنا نحسبها غير
قابلة للسقوط وخارج قانون تآكل الأجسام وتداعيها، وفسرنا ذلك السقوط حينا بفعل
كثرة صبرنا على الظالمين ودعائنا عليهم، وحينا آخر بفعل نفاذ ذلك الصبر
وثورتنا على الطغاة وإسقاطهم بالقوة، وحينا ثالث وهو الأقرب للصواب تجاوز هؤلاء
الحكام الطغاة الخط الأحمر لسنن الله ونواميسه غير القابلة للخرق والتعدي.
كنا ونحن
في أعلى نقطة على منحنى كرهنا وعدائنا للدكتاتور، وقبيل سقوطه بساعة ننكر فعل هذا الدكتاتور
ونرى الدنيا بعد سقوطه مخالفة تماما للدنيا ما قبل السقوط، وكنا نعتقد أننا نحن
المستنكرين للدكتاتورية والثائرين على التسلط والاستبداد هم من سيصنع الدنيا
الجديدة، والتي حتما ستكون خالية من كل ما حوته دنيا الدكتاتورية البائدة من أمراض
وعلل عبثت بأوطاننا. البعض منا تفاءل كثيرا فاعتقد أن برأنا سوف يتحقق بمجرد تدحرج
رأس الدكتاتور وسقوطها من على كتفيه.
انتشينا
بخمر النصر، وسكرنا برؤية سقوط الدكتاتورية المستفحلة المزمنة، إلا أن هذه السكرة
لم تدم طويلا، واستيقظنا لنرى حقيقة غابت عن الكثيرين منا، وهذه الحقيقة هي أن
حكامنا وهم يمارسون شتى أصناف الظلم، كانوا يرتقون في سلم الولاية الطاغوتية،
ويتفننون في صناعة المريدين والمتأسين بهم، وأنهم بقدر ما كانوا يمعنون ويبدعون في
فنون الدكتاتورية والتسلط بقدر ما يعلو شأنهم في نفوس الممسوخين من مقلديهم وورثة
استبدادهم وظلمهم وجبروتهم.
الصورة
لدينا بدأت تتجلى، وبدأ يظهر لنا مدى تركيز إصابتنا بأمراض حقبة الدكتاتورية
وتخللها نسيجنا وتعاظم نصيب إرثنا منها، بل وتميزنا في ذلك عمن سوانا من دول كمصر
وتونس وحتى اليمن، وذلك لتميز دكتاتورنا عمن سواه من حكام تلك الدول.
إن مجرد
إصرار الكثيرين منا على عدم تسليم السلاح، والتلكؤ المريب في حل مئات الكتائب التي
تشكلت بعد سقوط النظام وحلت بطريقة أوتوماتيكية محل الكتائب العسكرية والأمنية
للنظام الدكتاتوري السابق، ثم تمادي هذه الكتائب بالتصرف كما لو أنها تخوض حربا
مقدسة، إما مع الحكومة التي تطالبها بالانضواء تحتها، أو مع من ترى أنه يخالفها
أيديولوجيا، أو مع من تعتقد أنه لديه ما تغنمه منه، أو حتى مع المواطن العادي الذي
يبدي تأففه من عمل الكثير من أفراد هذه الكتائب التي لم يتغير منها عمن سبقها من كتائب وأجهزة سوى الاسم؛ إن
مجرد أفعال كهذه الأفعال يؤشر بوضوح إلى مدى تأسينا وتأثرنا بما زرعه الدكتاتور
السابق في نفوسنا من دكتاتورية واستبداد وعناد.
الاصطفاف
الغريزي الأيديولوجي والحزبي بدعوى الديمقراطية، هو الآخر له نصيب لا بأس به من
موروث الدكتاتورية صاحبة الأسرار المقدسة؛ ففي غياب دستور الدولة وعدم وجود قانون
للأحزاب اندفعت النخب السياسية غريزيا نحو تشكيل أحزاب وتجمعات سياسية كان هدفها
الأول والسريع الاستحواذ على صوت المواطن بأي ثمن، والوصول إلى كرسي الحكم قبل
وصول الآخر إليه، وربما دفعه عنه إن لزم الأمر. دليل ذلك أن ما فعلته هذه النخبة في
المدة القصيرة اللاحقة لسقوط النظام السابق في مجال توطيد وتركيز أفكارها وألوانها
الحزبية أكثر بكثير مما فعلته في إزاحة اللون الدكتاتوري الأسود من على وجه الوطن
ككل، أو ما فعلته في إزالة انعكاسات الدكتاتورية ومظاهرها السيئة المتمثلة في
الفقر والمرض والجهل والفساد، وغير ذلك.
الفساد
وهو الابن الشرعي للدكتاتورية والاستبداد نراه لم يخسر شرعيته السابقة تلك، ورأينا
من يدعون الثورة يمارسون الفساد بشرعية هذه الثورة، تماما كما كان يفعل القذافي
ورموز نظامه عندما كانوا يفعلون الموبقات ويبررون ذلك بشرعية ثورتهم المملوكة لهم
والمقتصرة عليهم.
حتى
المواطن العادي البسيط والذي كان يمارس مخالفة قوانين الدولة الدكتاتورية السابقة متخفيا
ومبررا ذلك بدافع الحصول على حقه من النظام السابق الظالم، وجدناه بعد سقوط ذلك
النظام يعود إلى ممارسة عادته السابقة، ولكن هذه المرة ليس في الخفاء، وإنما يفعل إثمه جهرا يل ومعتزا بإثمه؛ حيث يخالف قوانين المرور دون حياء، ويخرق قوانين التطوير
والتخطيط العمراني دون ارعواء، ويجرف الغابات ويصحر الأرض الخضراء، وكثير غير ذلك
من أعمال سيئة تمتد جذورها بوضوح إلى سواد طين البيئة الدكتاتورية السابقة.
يشتط بي
الخيال أحيانا فأتصور أن هناك مقاولا كبيرا لأعمال الدكتاتورية العربية، وأن هذا
المقاول يتعاقد مع مقاولين صغار يطلقون على أنفسهم قادة أو حكاما، وحتى ثوارا، حيث يمارس هؤلاء
نيابة عن المقاول الكبير العمل الدكتاتوري بأسماء وملامح مختلفة، إلا أنهم أحرص ما
يكون على تنفيذ ما يأمر به المقاول الكبير من خطط وتوجيهات دكتاتورية عامة.
في نطاق
مجال سكني وما يحيط بي من نشاط اجتماعي عام وخاص لم أر أي فرق بين الآن، وما كان
عليه الأمر
سابقا؛ فالشارع بتضاريسه وسلوك
المارين فيه لم يتغير منه شيء، والمصلحة المحلية من بلدية وغيرها كما هي لم يتغير
فيها شيء سوى لون قطعة القماش التي تعلوها وبعض الخربشات على جدرانها.
الحال نفسه في بيئة العمل التي لا
زالت ترزح تحث ثقل الموروث الدكتاتوري من بطء إنجاز وقصور تفكير وشلل إجراء، بل
ربما الكثير منها لا زال يدار بنفس الأشخاص ولكن بلحى سياسية.
لا زلنا كما كنا سابقا نمارس
هوايتنا المفضلة في الفرز الشللي وربما القبلي؛ فالإدارة العليا شلة، والإدارة
الوسطى شلة، حتى المتجمعين للوشوشة هم أيضا شلل يحكمهم قانون التشظي المؤدي إلى
الفرقة والعداء.
لا روح فريق، بل لا فريق أصلا؛
بدءا من أعلى إدارة حيث المجلس الوطني والحكومة، وانتهاء بشركة صغيرة أو مرفق بلدي
ناء.
كنت أتصور
أن الثمن الباهظ المدفوع في تغيير النظام الدكتاتوري السابق سوف يغسل كل أدران
الدكتاتورية، وبأن الليبيين سوف يقطفون ثمار ثورتهم التي صنعوها بأيديهم ؛ إلا أن
تصوري هذا لم يكن في محله، ذلك أن ما رأيته من سلوك وملامح للثوريين السبتمبريين بداية
من السبعينيات وما بعدها حتى سقوط النظام، لا يختلف كثيرا عما أراه الآن من سلوك
الثوار الفبراريين، أو أولئك المحسوبين عليهم.
كانت
للثوريين السبتمبريين سحنة ولهجة مميزة وهم يخاطبون غيرهم، وخاصة في فترة مراهقة
النظام، وهي سحنة ولهجة مشبعة بالتغطرس ورفض الآخر. الشيء نفسه رأيته يتكرر وأنا
أطالع سحنات ثوار فبراير، أو نسختهم المزورة الشائعة كثيرا الآن، وأسمع ألفاظهم
النارية الطافحة بالتسلط وتسفيه وتحقير الآخر.
أجل إن
للدكتاتور والدكتاتورية سرا مقدسا وفيضا روحيا دافقا يزيده سقوط رأس الدكتاتور
انتشارا وذيوعا، يؤكد ذلك ما رأيناه في بلادنا من قيام بعضنا بممارسة طقوس عبادة الدكتاتور وهو حي، وقيام مريدوه وورثة سره المقدس بتكرار ذلك وهو
ميت وقد انطلقت منه ريح الدكتاتورية النتنة طاردة ما كنا نحلم به من روائح الربيع
العربي التي ظنناها عبق ورد وشذى قرنفل وأريج ياسمين!
حقا.
تستور يا سيدي الدكتاتور!
ولكن
مهلا. لماذا التجني على الدكتاتور واعتباره هو الفاعل والباني الوحيد للصرح
الدكتاتوري؟!
ألا يؤشر
ما نحن عليه الآن من ممارسة للفعل الدكتاتوري حتى بعد سقوط الدكتاتور ضلوعنا بشكل
أو بآخر فيما كان يفعله الدكتاتور؟!
لو
اعترفنا بهذا، وأدركنا أننا جزء من المشكلة، لسهل علينا ذلك حل مشكلتنا، ولتوقفنا
عن صناعة المزيد من الدكتاتوريين المعطلين لتحقق الحلم وقيام الدولة.
محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق