الأربعاء، يونيو 05، 2013

إذا انقلب الهرم ................

إذا انقلب الهرم، فذلك هو الغرم!

زادي من علوم الفكر والفلسفة والسياسة غاية في التواضع، وهو ما يحول دون تمكني من نقد واستقصاء الثورة الليبية فكرا وحركة وحصادا، ومن تم الوقوف على جملة إيجابيات هذه الثورة وسلبياتها.

بعض تلك السلبيات يمكن لمثلي إدراكها بسهولة، وخاصة ما نسميه بلهجتنا الليبية "العوج وقلة القدو"، والذي يصبغ الكثير من تصرفاتنا، سواء على المستوى الشخصي، أو الرسمي العام. وهو عوج لا زلنا نمارسه حتى بعد أن من الله علينا بتحطيم رأس العوج، القذافي، وما منحنا سبحانه من فضل تمثل في هدية الخلاص الربانية التي سخر الله جنود الأرض والسماء من أجل إيصالها لنا.

إنني وكأي مواطن ليبي بسيط قضى كل عمره متعثرا فوق قاعدة الهرم الاجتماعي الليبي، تلك القاعدة التي شحنتها الدكتاتورية البغيضة بأشنع أنواع العوج الجماهيري، أيقنت أن لدى الليبيين قدرة لا بأس بها على تحسس العوج وإدراكه، وهو ما أدى بهم، بعد صبرهم الطويل، إلى رفض ذلك العوج واستنكاره، وأخيرا الثورة عليه وهدم أوكاره.

أجل أنا أحد الملايين التي مارس عليها الدكتاتور السابق هوايته المفضلة" العوج وقلة القدو"، وظن أنه بهذا قد أفلح في قتل حس الليبيين وتحطيم مجسات تمييزهم بين الخير والشر والظلم والعدل والعوج والصح؛ غير أن هذه الملايين لغزت على القذافي اللعبة، فانفجرت في وجهه في ذروة سكونها وغيبوبتها الظاهرة، وأسقطته، بل جعلت من حادثة سقوطه وتهاويه المدوية المفاجئة على أيدي ضحاياه المسحوقين المحقونين بجرعة مفرطة من مركب العوج درسا في الفكر والفلسفة والسياسة تتضاءل أمامه كل الدروس.

كل فرسان الثورة والناطقين باسمها في مرحلتيها؛ المرحلة الناعمة التي استمرت العقود الطوال، والمرحلة الخشنة خلال شهور الانتفاضة، كلهم كانوا مجمعين على أن وقود هذه الثورة مصدره استنكار الملايين من الليبيين سكان قاعدة الهرم كل مظاهر وأعراض العوج؛ من تخلف، وفقر، وجهل، ومرض غير مبرر، وغير منطقي.

المعادلة المنطقية البسيطة تقول: بمجرد نجاح الثورة وقطع رأس العوج ورمزه سيتوجه جمهور المنتصرين المتنفسين الصعداء إلى حيث كانوا يضعون أعينهم عليه: " العوج وقلة القدو"، ويشرعون في قطع أطرافه المتمثلة في الفقر والمرض والجهل والتخلف الحضاري لبلد ذات إمكانيات وموارد كثيرة وعدد سكان بسيط.

تصورت، إبان الثورة،  أن الشباب الحاملين لبنادقهم، وبمجرد تحول العوائق الحائلة بينهم وبين هدم أوكار العوج المعطلة لبناء وطنهم، سيضعون جميعهم تلك البنادق، ويقتنون بدلا منها أدوات البناء ووسائل التطبيب والتعليم والتعمير، وغير ذلك من مستلزمات سلم الحضارة الذي سيحمل سكان ليبيا من جزيرة العوج إلى فضاء الصح والمزبوط!

توقعت أن جمهور النخبة السياسية الذين كانوا يسوقون أمثلة فساد النظام السابق، وما انتشر خلال فترة حكمه من أمراض وعلل اجتماعية كثيرة، أن يبادروا جميعهم إلى بؤر تلك الأمراض، آخذين بيد غيرهم نحو تكوين فريق وطني واحد قوي عملاق، يجعل كل همه إزاحة رموز العوج التي سالت بسببها دماء الآلاف. وللتذكير فإن هذا الهم كان من أهم محتويات أجندة الثورة إبان اشتعالها، وقبل انتهائها بقليل!

فجأة انقلب الهرم، وحلت قمته محل قاعدته، وانخرط الجميع؛ شيبا وشبابا، نخبة وعواما، مثقفين وأنصاف مثقفين، ثوارا وأشباه ثوار، انخرطوا جميعهم في تكالب محموم على ما حواه رأس الهرم من أشياء مثيرة تنجذب لها الغرائز وتميل نحوها الأهواء، منها ما هو مقبول مشروع، إلا أن معظمها مذموم ممقوت.

المذموم الممقوت في سلة أمراض الهرم المقلوب، هو علة اضطراب سلم الأولويات، والذي بسببه انهمكنا في النافلة ونسينا الفرض، وتعلقنا بالمهم واستحقرنا الأهم. أهم مثل على ذلك هو مبالغتنا المفرطة، وهدر الكثير من وقتنا وجهدنا في مسألة أداة الحكم، والتي يكفينا منها في هذه الفترة الانتقالية تلك العصا البسيطة التي كان يمسك بها المرحوم الملك إدريس، والتي هي عبارة عن دستورنا القديم الذي قد يحتاج إلى القليل من التحسين، ومجلسي نواب وشيوخ مؤقتين يشرفان على حكومة تكنوقراط ينصب جل همها على إطفاء حرائق الثورة، وإيقاف النزيف الذي سببته سكاكين العوج طوال حقبة العوج، والعمل بأقصى سرعة على إعادة تأهيل الليبيين وتنقيتهم من علل وأدران رحلة السبي الدكتاتوري الطويلة.  

من أقل حسنات ذلك هو إبقاء هرم كيان الوطن والأمة قائما في مكانه وفي وضعه الصحيح، وهو ما يجعل سلم الأولويات والضروريات في وضعه الطبيعي، كما يمنع المراهقين ثوريا وسياسيا والمتنطعين والانتهازيين من العبث بالثورة وتعطيل قطف ثمرتها الأهم: قيام الدولة.

الهرم لا زال مقلوبا وقالبا معه تفكير وتوجهات وأفعال الناس؛ فما أن تمر بمجموعة شباب إلا وتجدهم يخوضون في أمور السياسة العليا للدولة بحماسة بالغة، وكأن الشأن السياسي هو الذي يمنع هؤلاء الشباب وغيرهم من الانخراط في إزاحة نهر العوج الذي وصلت أدرانه وأوساخه الذقون.

أي عوج أكبر من تركنا القضايا الخطيرة، وما أكثرها، وتركيز كل اهتمامنا في موضوع العزل السياسي الذي يكفينا منه ما تقوم به هيئة النزاهة من دور لمسنا نجاعته من خلال ما قامت به هذه الهيئة خلال عمرها القصير. وبسبب الترف المفرط في موضوع العزل فقد تمدد هذا العزل واستطال وخرج عن السيطرة ووصل به الحال حتى إرغام الثورة على أكل أولادها، ومساواة الجزار بالضحية، ووضع أنصار القذافي وجنوده ومن وقف ضد القذافي ورهن في ذلك عمره في سلة واحدة!

أي عوج أكبر من ترك الصدأ يتراكم مانعا قطار التغيير والتطوير من التحرك ولو مترا واحدا في غابة بنيتنا التحتية التي لم تزدها الثورة على التخلف إلا تخلفا.

أي عوج أعظم من أن ترى المتشحين برداء الثورة والحاملين سلاحها المادي والمعنوي يملئون المكان، ذلك المكان الذي غص بأكداس العوج المختلفة، إلا أن الثوار الأشاوس يتخطون كل ذلك وكأنه لا يعنيهم، ويتزاحمون بعيدا عنه حيث تعربد رائحة الغنائم المعنوية والمادية، وبات من المعقول تسمية ثورة التكبير بثورة التهبير!

أكبر عوج نحذره ونخشاه، هو اعوجاج تفكيرنا وانحراف مؤشر بوصلتنا؛ فنرى الأمر الضروري والملح كماليا وقابلا للتأجيل، ونرى الأمر الهامشي أساسيا وعاجل التنفيذ!

أصوات الملايين التي كانت تضج وتصيح بأعلى صوتها من أجل المسارعة في إصلاح أحوالها المعيشية اليومية البسيطة، أضحى صوتها خافتا خجولا؛ إذ ليس من البروتوكول أن تطرق باب وزير الحكم المحلي والبيئة أو الزراعة، مثلا، لتقول له: أسرع بانتشال الغابات من بين أنياب الجرافات، والسيد الوزير تطلبه كتلته السياسية على وجه السرعة من أجل الانضمام إلى فريقه الحزبي الذي يخوض حربا ضروسا مع منافسيه على هبرة السلطة وصراع كراسي الحكم ذات الإيقاع المرتفع جدا عما يحشرج به ذلك المواطن من استغاثات!

أما الوضع المزري للأجهزة الرقابية الإدارية والمالية،  والوضع المأساوي للمستشفيات والمدارس، والوضع الكارثي للطرق والمجاري، وأوضاع فاضحة كثيرة لأمور خطيرة عديدة أخرى، فقد بات كل ذلك من اختصاص القنوات التجارية الإذاعية والتلفزية، والتي اتخذت من إثارة المستمع أو المشاهد وانطلاق لسانه مادة أساسية في حشو برامجها.

لا سبيل إلى تجنب الغرم، إلا بإقامة الهرم!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com



ليست هناك تعليقات: