متلازمة رقة القلب
وأنيميا الوطنية!
مُركَّب انتماء الشخص
للوطن، والعيش على أديمه، والاستظلال
بظله، وتكلم اللغة السائدة فيه، واكتساب لون ترابه وشمسه، والتطبع بطباع أهله،
واتباع ما يسود فيه من عرف ودين؛ كل ذلك مما يحدد ملامح ساكن هذا الوطن، ويمنحه
الطاقة والرابطة الاجتماعية التي تتيح له القيام بدوره المعنوي الاجتماعي المتعارف
عليه. هذا المركب المعنوي يشبه إلى حد ما ذلك المركب المادي الذي يجري خلال جسم كل
منا محددا الكثير من ملامحنا البيولوجية، وباثا فينا الطاقة الحيوية المسيرة للجسم
والمحافظة على كيانه المادي، ألا وهو ذلك السائل السحري الأحمر المعروف بالدم.
قبل اكتشاف وسائل التحليل
المخبرية الحديثة، لم يكن بمقدور الناس تفسير ما يطرأ على الجسم من هزال، ونوبات
دوار، وغبش رؤية، وغير ذلك من أمراض أنيميا الدم المختلفة التي لا يظهر أثرها بشكل
واضح على أدوات وأعضاء الجسم الظاهرة كاليد أو الرجل، إلا أن أذى ذلك
يتخلل الجسم ويجري فيه مجرى ذلك الدم الذي بكدره وفساده يعتل الجسم ويمرض، وبتوقف
حركته تتوقف الحياة.
آلاف عينات الدماء تجد
طريقها كل ساعة إلى مختبرات التحليل، وهي في شكلها الخارجي الظاهر لا تختلف عن
بعضها البعض، إلا أن التقارير المخبرية المجهرية لها وجهة نظر أخرى، فتمنح شهادة
الكفاءة والعافية لبعض العينات، وتضع علامات تحذيرية حمراء على بعضها الآخر!
ألاف بل ملايين المواطنين
يتساوون بشكل يكاد يكون تاما في اللون واللسان والدين والعادات والتقاليد وبيانات
السجلات المدنية والإحصائيات السكانية والاستبيانات الاجتماعية، إلا أن نتائج
مختبرات ساحات معارك التضحية وفداء الوطن لها، هي الأخرى، رأي آخر، حيث تضع نياشين
النبل على بعض الصدور والقبور، وتضع على بعضها الآخر لطخ من عار وشنار.
رأينا رأي العين وسمعنا
الخبر اليقين عن نتائج وتقارير ساحات معارك الوطنية وحب الوطن خلال فترة الاغتصاب
الأجنبي لبلادنا ليبيا، وكذا خلال فترة الاغتصاب المحلي لها، وقرأنا ما دونته تلك
النتائج بمداد ذهبي لأسماء رجال قدموا بملء إرادتهم عزيز أرواحهم وأعمارهم من أجل
عزة الوطن وكرامة ساكنيه، كما وضعت تلك الساحات خطوط حمراء كبيرة تحت أسماء كثيرة
أخرى!
خلال محنة الليبيين
المحلية في صراعهم الناعم مع الدكتاتور طوال عقود حكمه، كانوا في مستوى المسئولية
؛ فضحى الكثير منهم بأرواحهم، وآثر القادرون منهم الهجرة خارج الوطن، وهاجر غير
القادرين داخل الوطن. وعندما انتقل هذا الصراع إلى مرحلته الخشنة
الأخيرة ضرب الليبيون مثالا يحتذى في نقاء دمهم من شبهة أنيميا الوطنية،
بل وجرت الكثير من تلك الدماء فداء للوطن وعزه وعز مواطنيه.
خلال الثمانية أشهر
الساخنة، وبفعل طاقة الدماء النقية الخالية من أنيميا الوطنية، تحرك قطار تحرير
الوطن وتحرر من مصدات التخلف بسرعة أسطورية، حتى أنه حطم في هذه المدة القصيرة ما
بنته الدكتاتورية من عوائق ومصدات في أكثر من أربعة عقود.
غازلت هذه الصورة خيالي
حتى أنه ذهب بي وبكل الحالمين المتفائلين أمثالي بعيدا جدا؛ فافترضت، وبكل حسن
نية، ثبات سرعة انطلاق المارد الليبي بما حوته كتلته الثائرة كلها قبل أن يعبث بها
الفرز الانتهازي الأخير، وبت أرسم صورة ليبيا بعد فكاك قيودها كما لو أنها ورشة
عمل وبناء وقد اكتظت بجموع الليبيين المشحونين بنفس حماستهم الأولى وهم يملئون
الشوارع والميادين ويتسابقون للشهادة في ساحات الوغى.
حق للمقاتلين بشتى
أصنافهم أن يستريحوا استراحة المقاتل الضرورية المعروفة، كما يُغفر لهم ما كان
منهم من سهو الإنسان ونسيانه؛ إلا أنه لم يخطر ببالنا أبدا أن الصورة ستنقلب هذا
الانقلاب الصارخ، فينخرط ثائرو الأمس في نوبة لا مبالاة وعدم اكتراث تشبه إلى حد
بعيد نوبة اللامبالاة الإجبارية التي أوقعتهم فيها الحقبة الجماهيرية المظلمة.
إبان الحقبة الجماهيرية
تلك كان من السهل العثور على مسبب اللامبالاة والمشتبه به الوحيد، وهو تسلط الفرد
وتكريسه لسلوك اللامبالاة، بيد أن ذلك لم يعد ممكنا وقد صرح الليبيون جميعهم
واعترفوا، والاعتراف سيد الأدلة، بخلو أيديهم من أي قيد وإرادتهم من أية شائبة،
وهو ما يحتم علينا النظر إلى زاوية مظلمة أخرى يختبئ فيها الفاعل والمتسبب الوحيد
في فتور همة الليبيين وغبش رؤيتهم وخوار عزيمتهم بل وانحراف مؤشرات بوصلاتهم.
المشتبه به الوحيد واضح
وصريح، وهو بالتأكيد ليس الامبريالية أو الصهيونية العالمية أو أزلام القذافي أو
غير ذلك من مشاجب نظرية المؤامرة التي يعلق عليها العاجزون أخطاءهم ويسندون إليها
عيوبهم، إنه وبكل تأكيد فيروس أنيميا الوطنية الذي أخمده دفق وطنية مواجهة
الدكتاتورية، ولكنه لم يفتك به ويستأصله.
أنيميا الوطنية الليبية
لنا معه نحن الليبيين قصص طويلة دارت الكثير من أحداثها خلال عقود الجماهيرية
المظلمة، حيث ضرب صانعها ومساعدوه أمثلة أقرب إلى الخيال في شح جرعة حب الوطن
وإكرام مواطنيه، حتى أن الأجانب الذين يعيشون بيننا كانوا يتبادلون النكاث الطريفة
التي لا تخلو من الحقيقة حيال ذلك، وخاصة قولهم المشهور بأن الليبيين هم مستأجرون
لليبيا، وليسوا ملاكا لها!
ذات مرة كنت على متن
طائرة إمارتية وكان إلى جواري شاب إمارتي، وظهر إعلان إعلامي على شاشات مقصورة
الركاب مفاده إحراز الخطوط الإماراتية المركز الأول في مستوى الضيافة. التفتت إلى
جاري الإماراتي وسألته مستغربا: كيف يمكن لشركة قطاع عام في دنيا العرب وفي بلاد
نامية كالإمارات افتكاك هذه المرتبة العالمية من أيدي عمالقة الطيران العالمي؟
استغرب جاري سؤالي وربما استهجنه، وقال: لا فرق عندنا بين ملكنا الشخصي وما تملكه
الدولة؛ فشعوري نحو الطاولة التي أجلس عليها في مكتبي الحكومي، هو ذات شعوري نحو طاولة
مكتبي المنزلي! استطردنا في الحديث ونحا نحو علاقة الحاكم بالمحكوم، ففاجئني جاري
الإماراتي بقوله: إنني أستطيع من خلال تليفون الطائرة التي نستقلها حجز موعد لي مع
رئيس الدولة!
كان رئيسي في ذلك الوقت
الكولونيل الجلف القذافي صانع عصر الجماهير ثم بعد
ذلك ساحقهم، وكان رئيس دولة الراكب إلى جواري رجل بدوي مثل القذافي اسمه الشيخ
زايد، والذي يشبه القذافي في أشياء كثيرة فيما عدا شيء واحد!
الشيء الواحد الذي يتميز
به ذلك الرجل، ويختلف فيه عن القذافي وأشباه القذافي هو جرعة رقة القلب على مواطني
بلده، وبالغ حنوه عليهم، ورأفته بهم!
لابد أن هناك تنافر جيني
عميق بين كل من أنيميا الوطنية في دم الإنسان ورقة قلبه وسرعة انسكاب دموعه؛ ذلك
أن رقة قلب الأم نحو وليدها تدفعها غريزيا لانتشاله من الخطر حتى وإن لحقها من ذلك
الخطر ما لحق. كل الذين رق قلبهم على الليبيين وهم يعانون عسف الدكتاتورية
ويتجرعون مرارتها فعارضوا الدكتاتورية بكافة صور المعارضة، ثم حرصوا على عدم
مقايضة ذلك بما يتزاحم عليه الآن غلاظ القلوب الموبوءة دماؤهم بأنيميا الوطنية من
غنائم مخزية!
من مظاهر رقة القلب
والبرء من أنيميا الوطنية ما كان من موقف مشرف وقفه كل من المستشار مصطفى عبد
الجليل والدكتور محمد المقريف، وما أبداه كل منهما من حب للوطن وانحياز لمواطنيه
ضد قوة مستبدة غاشمة.
وعندما استلم الرجلان
السلطة وغادراها، حرص كل منهما على بيضة الوطن، ودليل ذلك تنحيهما عن كرسي الحكم
دون أية مقايضة أو تلكؤ أو ضجيج، وهو ما يعتبر علامة صريحة على خلو دم كل منهما من
أي قطرة من سيل فيروس الأنيميا الليبية الدائم التدفق حتى حينه، ذلك النهر الذي
اغترف منه القذافي حتى انمسخت فطرته، وتحول إلى ذئب في ثوب قائد جماهيري أممي!
محمد
عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق