الأحد، أغسطس 04، 2013

ديمقراطيتنا الغضة

ديمقراطيتنا الغضة تحت رحى الأقدام والألسنة والبارود!

نحن شعوب الدول العربية التي شاء القدر أن يفكها من أسر الدكتاتورية فجأة وعلى غير ما ميعاد، وجدنا أنفسنا وبشكل مفاجئ ودونما ترتيبات ومقدمات نقفز من درجة التجمد الديمقراطي العميق إلى درجة التحرر والانطلاق غير المحدود،  وفي مواجهة مباشرة مع المخلوق الديمقراطي الغريب الغض الرقيق الذي وطأ أرضنا الدكتاتورية الخشنة المتشربة بأقسى أنواع سموم الظلم الاجتماعي والتسلط السياسي. هذا المخلوق الديمقراطي يتكلم بلغة مغايرة للغتنا الدكتاتورية التي ورثناها وتطبعنا بها؛ الأمر الذي عسر علينا التفاهم معه، وألجأنا إلى لغة التجربة المكلفة، وطريقة الخطأ والصواب المملة، وهو ما جعلنا نتسمر في المرحلة الديمقراطية رقم صفر! 

المرحلة صفر في منهج سنة أولى ديمقراطية، والتي دفعنا إليها انفجارنا العفوي في وجوه حكامنا الدكتاتوريين، لم تكن سوى استنفار أقدامنا وأكفنا وألسنتنا، والخروج إلى الشوارع والتجمع العشوائي هنا وهناك، وتأليف وصوغ المطالب والشعارات الثورية على إيقاع وقع الأقدام وتدافع الأجساد، وانسياقا وراء ذوي اللياقة البدنية والخطابية من شبابنا وعوامنا.

هذه المرحلة صفر بكل عيوبها الجسيمة الظاهرة شاء حظنا العاثر أن تكون هي بوابة دخولنا إلى المضمار الديمقراطي الذي لا تعترف قوانينه العتيدة بلغة الأقدام والأجساد تلك، لا بل إنها تعتبرها مرحلة أخيرة وحالة اضطرارية لا يُلجأ إليها إلا بعد استنفاذ كل الوسائل وفشل كل الحلول الديمقراطية الكثيرة التي يتسع لها كل مكان إلا الشارع. وعلى هذا لا يمكن اعتبار اللجوء إلى الشوارع سوى صمام يخفف من ضغط الحراك الاجتماعي في درجته القصوى الشاذة وغير المعتادة، ذلك أن خروج الناس إلى الشوارع في المجتمعات الديمقراطية هو أمر نادر الحدوث تسعى النظم الديمقراطية إلى التقليل منه وربما إنهائه.

في الشارع تنعدم كل وسائل المعرفة من قلم وكتاب وآلة حاسبة، وتحل محلها أزات الأقدام وصفق الأكف وضجيج الصرخات، ويتباطأ عمل العقل، ويتسارع نبض القلب، فتنصبغ الأفعال بالتلقائية، وتعربد النزعة والغريزة، ويقود الجموع أكثرهم جرأة، ولو كان أقلهم علما وخبرة!

في مصر وبعد مخاض ديمقراطي طويل تم التوصل بعده إلى انتخاب رئيس وكتابة دستور واعتماده، عاد المصريون إلى المرحلة صفر من الدرس الديمقراطي الأول، وخرقوا قواعد وقوانين اللعبة الديمقراطية قبل أن يجف الحبر الذي وقعوا به عليها، وانسحقت الديمقراطية المصرية الغضة الوليدة تحت أقدام الشباب ما تحت سن الثلاثين الذين يعاني معظمهم من أمية الحرف وبما معدله 40%، ومن الأمية الفكرية ربما بمعدل أكبر من ذلك بكثير!

انتشرت عدوى الإصابة بفيروس انتكاس الديمقراطية بسرعة وشملت ليبيا وتونس، وخرج الناس إلى الشوارع يتهمون بعضهم بعضا ويخوِّنون بعضهم بعضا، وتعددت وتناقضت مطالبهم، في صورة مخالفة تماما للصورة التي خرجوا بها أول مرة، عندما كانوا يرددون شعارا واحدا، ويتجهون نحو هدف واحد. هذا الحال تفاقم خطره حتى بات من الضروري فصل كل فريق عن الفريق الذي يختلف معه، وذلك تجنبا للاحتكاك الخشن بين الجانبين. 

في إحدى تجمعات التظاهر في ليبيا بميدان الجزائر، رأيت بعيني من يأتي متعمدا من تجمع آخر مخالف، ويبدأ بإطلاق الشعارات المستفزة في صفوف الفريق من الطرف الآخر، وبطريقة مثيرة أدت إلى ردة فعل معاكسة وتلاسن بين الطرفين وحتى عراك. أما في تجمعات مصر فحدث ولا حرج!

الإعلام التجاري الرخيص يعتبر هذه التجمعات المريبة وجبات رئيسية دسمة لماكينته الدائمة الدوران، وهو ما حفز منظمو هذه التجمعات إلى التكلف في عرض بضاعتهم حتى تثير شهية الإعلام النزق بشكل أكبر، وهو حال ألجأ هؤلاء المنظمون إلى الاستعانة بذوي المهارات واللياقة البدنية واللسانية، وربما إلى ذوي الجرأة العدوانية من بعض الشباب المرتزقين من هذه الحرفة الديمقراطية الجديدة.  

وطالما أن الشارع والإعلام ارتفعت درجة حرارتهما إلى هذا الحد الخطير، فقد بات من المحتم على كل فريق تحسس سلاحه واستنفار جنده؛ ففي ليبيا وتونس لُجِأ إلى السلاح أكثر من مرة، واستخدم باروده في وضع النقاط على حروف كثيرة عجز المداد الديمقراطي على نقطها. أما في مصر فقد أطاح الجنرال باللوحة وحروفها، وقذف بها في تيار وادي النيل، وصارت ثورة 25 يناير من بعض أضغاث أحلام المصريين!

إدمان الخروج إلى الشوارع، والتكلف في التبرج الإعلامي المثير، والتوغل إلى درجة العدوانية فيما يعتقده كل فريق، كلها من ميراث الدكتاتورية التي أرغمتنا وأغرتنا بالنزول إلى الشوارع تأييدا لها على سحق معارضيها والإساءة إليهم إعلاميا حتى درجة الفجور الشبيه كثيرا بما عليه جل إعلامنا الديمقراطي الحالي من فجور.

أصبح مما لا شك فيه أن المخلوق الديمقراطي الغريب علينا  يخاطبنا بلغة ونحن نخاطبه بلغة أخرى غير لغته، بل ووصل بنا الحال حد قيامنا بتمزيق كاتالوج اللعبة الديمقراطية ذاتها، وذلك جريا على عادتنا في تمزيق كاتالوج كل منتج جديد علينا، نسرف في الانبهار بتملكه، إلا أننا لا نكلف أنفسنا حتى مجرد قراءة دليل استخدامه، وهو ما قلب نفع هذه المنتجات ضررا.

هذه الصورة التي التقطت بعض مشاهدها الكثيرة من أكثر من مكان من أمكنة سقوط وتردي وليدنا الديمقراطي الغض، خلت كما هو ظاهر من مشهد تواجد أهل الرأي الصائب وذوي العلم بفنون لعبة الديمقراطية، والذين لا يمكن لهم بحكم طبيعتهم من التواجد في الشوارع والميادين، والتعامل مع الأجساد المعربدة حتى الجنون، والألسنة المتمددة حتى الاندلاق.

محمد عبد الله الشيباني



     

ليست هناك تعليقات: