ميدان الشهداء في يوم
الشهداء ليس فيه شهداء!
يمارس الناس طقوسا
كثيرة وهم يُحيون ذكرى شهدائهم. والناس إذ يمارسون هذه الطقوس تراهم يستحثون كل
طاقاتهم النفسية والوجدانية، ويستدعون كل مخزون ذكرياتهم ومعلوماتهم التاريخية،
وذلك لا لشيء إلا من أجل محاولة جعل لحظة إحياء ذكرى الشهيد تقترب قدر ما أمكن من تلك
اللحظة التي أقدم فيها ذلك الشهيد على القيام بأجلِّ وأعظم عمل يمكن أن يقوم به
إنسان حي ذي روح واحدة، وهو يتخذ بملء إرادته قرار التنازل عن هذه الروح الوحيدة، وتجرع
كأس الموت المرّ الذي تُسترخص كل كنوز الدنيا مقابل النجاة من علقمه. أما المقابل
الذي بانتظار هذا المتطوع الحصيف الفذ فهو ذلك الكنز الذي ليس كمثله كنز: الشهادة!
ما من شهيد ذكي
حصيف، وهو يقوم بعرض روحه في بورصة الأرواح، إلا وتتسمر عينه في مكان واحد لا
تغادره حتى يسمع قرع مطرقة رسو المزاد معلنة تمام صفقة بيع الروح بالثمن الذي تاق
إليه صاحب الروح، وهو الثمن المقوم فقط بعملة القيم النبيلة والمثل الجليلة!
حقا ليس هناك ما
هو أربح من بيع الشهيد وهو يجود بنفسه مقابل إرساء قيم الحرية والكرامة والعدالة
وإظهار الحق وإزهاق الظلم وكسر شوكة الطغاة، وأولا وأخيرا إرضاء الخالق وإسعاد
المخلوق!
وأيا كانت درجة
إيمان أحدنا وهو يمارس طقوس إحياء ذكرى
الشهداء، مغمضا عينيه أو شاخصا بهما نحو أعلى مكان يستوعبه خياله المجنح، فإنه لن
يستطيع الإفلات من حقيقة أن روح الشهيد الذي يقف محييا ذكراه لابد أن تكون هناك؛
في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وليست في مكان آخر غير ذلك!
هناك في مقعد
الصدق وعند المليك المقتدر لا يمكن أن نخاف أو نحزن على من نحتسبهم عند الله
شهداء، ولكن الخوف يجب أن نستشعره نحن الذين أخذنا على عاتقنا أمانة البر بوصية الشهداء
وإنفاذها!
كان بإمكان شيخ
الشهداء عمر المختار أن يقذف بحزمة القيم والمثل النبيلة التي عشقها وضحى من أجلها
جانبا، مقابل أن يحتفظ بروحه لبضع سنوات يقضيها حاكما إقليميا لبرقة التابعة
لحكومة روما، وربما شرفه موسيليني خلال هذه السنوات بدعوة رئاسية لحضور احتفالات
ذكرى سيطرة روما على ليبيا وانضمامها إلى تلك النجوم المكللة للتاج الإيطالي!
وكما هو معلوم،
فطالما كان هناك ظلم وجور وتسلط واستبداد وفساد فإن كوكبة الشهداء الكرام العظام
لا تنقطع مسيرتها، وكأن وجود الشهداء دالة على وجود الظالمين والجائرين
والمستبدين.
لم تذكر لنا كتب
التاريخ وهي تستعرض فترة حكم المرحوم إدريس السنوسي ما يشير إلى احتدام الصراع بين
الحق والباطل والحرية والاستبداد إلى درجة انبراء الشهداء من أجل الدفاع عن القيم
والمثل واصطفافهم صفوفا وطوابير من أجل بذل الروح الغالية مقابل إرساء تلك القيم.
الحال انعكس تماما
في ظل السنوات الأربعين لحكم القذافي، فلا يكاد يمر عام أو جزء من عام حتى تصدمنا
الأخبار، المتاح منها والممنوع، بخبر ارتقاء شهيد أو أكثر إلى ملكوت الله فداء
لقيم الحرية والكرامة والعدل ومقاومة للظلم ورفضا للاستبداد.
حاولت فيما التقطت
أصابعي مما حوت لوحة المفاتيح من حروف وكلمات، التقاط ما دنا إلى وجداني مما للشهداء
من قبسات وومضات، وتجميع ما ألهمتني ذكراهم البليغة من إشراقات وإضاءات، مشاركا
بني وطني فيما أقاموه للشهداء من احتفالات.. ولكن! آه من لكن!
ولكن، ونحن في يوم
الشهداء وبميدان الشهداء وفي حضرة أرواح الشهداء، هل حرصنا فعلا على التضمخ بالعطر
الذي يستطيبه الشهداء فيقبلون علينا، وتطهرنا مما يؤذي أرواحهم فلا ينفرون منا؟!
الذي نعرفه أن
العطر الذي يستطيبه الشهداء هو ذلك العطر الذي مزاجه خلاصات قيم العدالة والحرية
والكرامة. أما الرائحة التي تنفر الشهداء منا فهي ما كانت ممزوجة بصديد الأفعال
المنكرة والصفات الخبيثة؛ من تسلط وظلم وقتل وتعذيب وسرقة وغش وهتك أعراض وترويع
آمنين وتهديم لصرح الوطن.
خبر عاجل: "
لم يتسن حضور الشهداء إلى ميدان الشهداء للاحتفال بعيد الشهداء، وذلك للأسباب
التالية:
ــ الهبوط الحاد
لأسعار القيم والمثل مقارنة بأسعارها التاريخية العالية جدا؛ أرواح الشهداء.
ــ انعدام الأمن وشيوع الجريمة وسواد الرذيلة.
ــ عربدة الحمقى
والسفهاء وانهزام وانكسار الراشدين العقلاء.
ــ خدر يد الإصلاح وعجزها عن مواجهة الإفساد.
ــ تهديد حياة الليبيين بالسطو على مقدراتهم.
ــ الخيانة
الصريحة للشهداء ونقض عهودهم.
بدون حضور أرواح الشهداء، يصعب علينا الإدعاء يأننا نحي يوم الشهداء!
محمد
عبد الله الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق