هل نحن بحاجة إلى وزراء،
أم إلى رجال إطفاء؟!
لعل الشبه بيِّنٌ
وجلي بين ما تحدثه بؤر النار من حرائق في الوسط الذي تشب فيه؛ فتحرقه وتدمره، وبين
ما تحدثه بؤر الفساد والتخلف والجهل والمرض في الوسط الاجتماعي؛ فتهتك أنسجته،
وتمزق أوصاله.
كما أن الشبه أيضا
بين وجلي بين ما تحدثه هبة رجال الإطفاء بعِددهم وأدواتهم وهم يكبحون جماح ألسنة
اللهب عن الحرق والتدمير، وبين ما يحدثه سيف المصلح وهو يبتر أصابع الفساد، ويقطع
كلاليب البؤس، وينتشل المجتمع من مستنقع التخلف والانحطاط.
وكما يصرخ الشخص العاقل
السوي بأعلى صوته طالبا نجدة رجال الإطفاء من أجل القضاء على الحريق المستعر، فإن
المواطن الصالح السوي هو أيضا تصعقه مظاهر الفساد والتخلف والمرض والجهل التي تحيط
به وتهدد بقاءه؛ فيعلي صوته مأيها بمن حوله من أهل السلطة والقوة كي يهبوا لنجدته، ويدفعوا عنه ما يحيق به من بؤس وشر.
صرخ الشعب الليبي
طويلا خلال عقود التسلط وحكم الفرد وتغول الفساد، فما وجد صراخه أذنا صاغية، وكان
ما كان من تراكم ذلك الصراخ، وتحوله إلى انتفاضة عارمة ضد ذلك الوضع السيء.
فاتورة تلك
الانتفاضة كانت باهظة جدا، إلا أنها كانت مقنعة، وذلك لما اتفق وتواضع عليه
الليبيون جميعهم وهم يتقاسمون دفع الفاتورة؛ حيث اتفقوا على أن لا يقل مردود هذه
الفاتورة على تحقيق الخلاص النهائي من حرائق الفساد والتخلف والجهل والمرض.
إن الليبيين بما كانوا
عليه قبل ستة عقود من فقر مذقع، وبما كابدوه من غبن كبير طوال عقود البترول
المسروق، وكذا بما عانوه من حاكميهم من عسف وعقوق، لهم ألف حق في المطالبة
بالتعويض السابغ السريع، والمسارعة بإطفاء حريق بلادهم المتأجج المريع.
أسئلة المواطنين
الليبيين البسطاء المغبونين مكسوري الخاطر الذين يشكلون السواد الأعظم من
الليبيين، تثيرها مجموعة من الحرائق المنتشرة هنا وهناك، وهي حرائق نمر بها جميعا
صباح مساء، فنصطلي بنارها ونختنق بدخانها، ولا يجرؤ أحد منا على إطفائها، ولو برشة
من ماء إصلاح، تُكبح بها جماح ألسنة لهيب الفساد والبؤس والتخلف.
أطلقتُ صفة
الحرائق على تلك الأمكنة التي عشش فيها البؤس، وتجذر وتطاول فيها
"العوج"، وتمدد فيها التخلف والفساد. وبدل أن يقاوم الناس تلك الكائنات
الشيطانية ويطردونها شر طردة، حدث العكس، وصارت هذه المخلوقات هي التي تطرد الناس، وتدفعهم
بعيدا عنها.
مجموعة حُفر قد لا
تكلف تسويتها شيئا من ميزانية دولة عشرية المليارات، تراها تجبرنا على ترك الطريق
الذي تسكنه هذه الحفر، متجشمين السير في طرق أخرى بعيدة، وذلك حتى نتجنب الصدام مع
غول الحفر المعربد في الكثير من طرقاتنا!
تقاطع طرق يسكنه
غول الازدحام، تراه يضيع وقتنا، ويعطل أعمالنا، وينغص علينا حياتنا. وبدل أن نتجمع كلنا ونضرب
بيد واحدة ذلك الغول، ونطفئ حريق الازدحام، ترانا نكتفي بالهروب من ذلك الازدحام،
وننتشر على غير هدى، هاربين من ذلك الغول، وحيث يستوي في ذلك الهروب المخزي راكب
المفخرة وغيره، والوزير والغفير. كلهم هاربون إلى الأمام.
"سومافرو" طريق مطار العاصمة:
لابد أن رئيس
الوزراء وجميع وزرائه، مروا مرات عديدة ببوابة طريق مطار طرابلس، حيث العلامة
الضوئية، ولابد أنهم عاينوا حريق الزحام، وهو يعربد في ذلك المكان، ولدرجة يصل فيها
مدى التضاغط درجة التفجر المؤجج لإحباط الناس ويأسهم من إمكانية السيطرة على ذلك
الحريق المعربد على مدى السنين. شخصيا ما مررت مرة من هناك إلا وأمطرت مسامعي
ومسامع من حولي بالأسئلة التالية:
ــ هل يمر
المسئولون من هنا؟
ــ هل يأخذون
دورهم في هذا الفرن، ويتنشقون حصتهم من دخانه؟
ــ هل يطرحون على
أنفسهم السؤال المكرر على لسان كل مواطن؛ لماذا هذا، ومن المسئول عن استمرار تأجج
هذا الحريق؟
ــ عندما يعرف
المسئول أنه هو المطلوب منه الإجابة، هل ينتقل ذلك المسئول إلى السؤال الموالي، ويسأل
نفسه: لماذا لم أقم حتى الآن بإصلاح هذا الخلل وإطفاء هذا الحريق؟
ــ هل يكتشف هذا
المسئول أن الوسيلة الوحيدة والناجعة لإطفاء هذا الحريق هي بسيطة بساطة إقامة جسر خرساني
بطول 150 مترا تقريبا، حيث يعبر فوقه الذاهبون نحو المطار ونواحيه، وما عداهم
يعبرون من تحته؟
ــ هل يجري هذا
المسئول، والذي لابد أنه يحمل دكتوراه في الهندسة، بعض العمليات الهندسية
والحسابية البسيطة عن تكلفة هذا الجسر، والتي لن تكون أكثر من "فكة" من تلك المليارات المبعثرة هنا وهناك؟
بعد طرحي لهذه
الأسئلة، يتصاغر في ذهني هول ذلك الحريق؛ فببضعة ملايين من الدينارات، وفي زمن قد
لا يتجاوز بضعة شهور، يقام جسر، فيوفر على آلاف الذاهبين والراجعين الساعات الطوال
من أوقاتهم الثمينة، مع ما يحدثه هذا الجسر الرخيص من ترميم في تلك الشروخ والندوب
العميقة لمشاعر المواطنين المنكسرة وأحاسيسهم المشروخة!
مستشفى مركز طرابلس الطبي، والذي تناطح مبانيه السحاب، إلا أن مظاهر بؤسه تجاوزت
ذلك السحاب بكثير، ملوحة بالموت لكل من يجرؤ من الاقتراب من المستشفى، مجبرة المرضى
المساكين على قطع الفيافي والفجاج، طلبا للاستشفاء والعلاج! ليس من سبب وراء ذلك
كله إلا افتقاد المستشفى إلى عشر معشار تلك المليارات التي تقع في نطاق ومسؤولية
المؤتمر والحكومة ومن يأتمرون بأمرهم من وزراء وكبراء ومدراء.
تلك هي مجرد أمثلة
للكثير من هذه الحرائق المشتعلة، والتي لن يقدر على إطفائها وزراء تقليديون، تقيدهم
ربطات أعناقهم، وتأسرهم قيودهم الرسمية وأدبياتهم الناضحة تكلفا وترفا. إن تلك
الحرائق لا يطفؤها إلا وزير بعقلية وثقافة إطفائي، يعامل حرائق الفساد والتخلف والمرض
والفقر المتأججة في كل زاوية من زوايا نطاق مسؤوليته وكأنها حرائق تتأجج داخل
بيته، بل وفي غرفة نومه، فيسارع بما هو متاح من سبل إلى إيقاف الخطر، ودرء المصيبة.
حقا ما أشد سذاجة
هذا الكويتب. علق أحد الوزراء بعد قراءته العبارات الساذجة الضحلة عاليه، وأردف
قائلا: أي مواطن بسيط هذا الذي يهرف بما لا يعرف! ما أضحل رؤية هؤلاء المواطنين البسطاء،
والذين لا يعلمون من أمور وقوانين وإجراءات وبروتوكولات الدولة شيئا!
حقا إنني لا أعرف الكثير
من ذلك، ولست منتقصا من شأن ذلك، إلا أنني أعرف قدرا لا بأس به مما يعتمل في صدر
الكهل الأربعيني الذي قضى طفولته وصباه وشبابه معايشا لما يزخر به الطريق الرئيسي الموصل
إلى بيته من حفر وبرك ماء ومطبات لا يكلف تصليحها كلها سوى مجرد فكة من عشرات المليارات
التي نسمع جعجعتها ولم نلمس طحينها قط!
كما أنني على يقين
من أن جميع الحرائق المتأججة هنا وهناك؛ في الطرق، وفي المستشفيات، وفي المدارس،
وفي كل مكان يتحرك فيه المواطن البسيط، يمكن إطفاؤها بمجرد توفر وزير إطفائي على
قدر من الحساسية الإيجابية، حيث يقوم هذا الوزير بطرح الأسئلة البسيطة عاليه ويجيب
عنها، محطما كل المشاجب الواهية التي يتعذر بها الوزراء المخمليون.
إن استمرار اشتعال
الحرائق التي يخنق دخانها عموم الناس، ويفجر حريقها المتأجج غضبهم، مع شعورهم
بتفاهة هذا الحريق، كتفاهة بناء كوبري بسيط يطفئ جحيم ازدحام وتكدس مريع، أو تصليح
طريق يمسح بؤس عشرات السنين، أو تطوير مستشفى يرمم ثقة المواطن فيه، لهو مما يجرح
ثقة الناس في مسئوليهم، ويؤدي عند تفاقمه إلى كسر عصا الطاعة وتهاوي سلطة الدولة،
وهو ما نعيش بعضه الآن.
تعمل الحكومة الآن
على تصحيح مسارها. يا ليتها تأخذ ما ذكرت في حسابها!
محمد
عبد الله الشيباني
Libyanspring.blogspot.com
aa10zz100@yahoo.com