الأربعاء، فبراير 26، 2014

لعبة كرة الكلمات

لعبة كرة الكلمات، استهوت أخيرا حتى الجنرالات!

كلنا يعرف كرة الثلج المنحدرة من علو، وكيف تتعاظم وتزداد كتلتها وسرعتها وكمية حركتها، وما تحدثه هذه الكرة المتدحرجة خلال رحلتها القصيرة الخطيرة من أثر مدمر. المذهل المرعب في هذه الكرة هو تراكم واضطراد حجمها وسرعتها وأثرها في زمن وجيز وبصورة تختلف كثيرا عما تكون عليه في بداية تكونها وحركتها.

كرات كلماتنا الليبية هذه الأيام تنتشر على امتداد مضمار ثرثرتنا ولغونا الكبير، وهي كبيرة الشبه بكرة الثلج المرعبة تلك؛ حيث تبدأ كراتنا الكلامية المهلكة من مجرد معلومة خاطئة أو إشاعة مغرضة يصنعها أو يتبناها أحدنا ثم يقذف بها دون تريث إلى الأثير الذي بدوره يحقنها في أسماعنا، حيث تجد هذه الكلمات طريقها إلى عقول بعضنا المشرعة الخاوية، لا سيما صغار السن وذوي المعرفة المحدودة، وهناك تصطبغ وتتشرب بما يحويه تفكير سامعها وهواه الذي بدوره يسلمها إلى غيره، فتزداد تشوها وتسمما قبل أن يستقر بها المقام عند خط المعركة، والذي يقابله خط معركة معاكس له في الشحنة والاتجاه، وحيث هناك يحمى وطيس الحرب بين إخوة الوطن والدين.

 وإذا كان سقراط قد قال قديما: تكلم كي أعرفك؛ فإن الليبي هذه الأيام يقول لليبي الآخر: تكلم كي أصنفك؛ وما هي إلا كلمات قليلة تصدر عن المسؤول حتى يسارع سائله إلى تمرير هذه الكلمات على جراب المصطلحات السياسية والأيديولوجية الذي يتأبطه، وبسرعة يقوم بإلباس صاحب تلك الكلمات أحد الأثواب الجاهزة التي يحويها ذلك الجراب. وكما هو معلوم فإن تلك الأثواب إما أن تكون ذات وسم ديني أو علماني أو أتباع النظام السابق أو أجندة خارجية أو غيرها من الأثواب الكثيرة التي أغرقت سوقنا الليبي المتواضع البسيط.

ليت الأمر يقف عند مجرد التصنيف، فالناس كما هو معروف أصناف ومشارب، والتنوع والاختلاف من سنن الوجود، ولكن عملية التصنيف هذه يستتبعها على الفور قيام صاحب التصنيف باستدعاء ما لديه من ميول وعواطف شخصية، وحتى انتماءات فئوية وقبلية، ثم ينخرط في عملية تصنيف وفرز معقدة ومريبة لمن يصنفه، ولن يهنأ له بال حتى يرى صاحبه وقد حمل الكود الذي يناسبه من سلة الأكواد الموجودة لديه، تماما كما دأبت على ذلك أجهزة أمن النظام السابق التي قسمت الشعب الليبي إلى فئات وأصناف وأعداء وأصدقاء.

تحولت ليبيا الآن إلى منصات إطلاق صواريخ وقذائف كلامية، وبات جل الليبيين لا هم لهم سوى صناعة الكلام ونقله وتداوله بوسائل وأدوات لا تأخذ في حسابها أي معيار من معايير التثبت واستيفاء الدليل القطعي وهي تنقل شحنات الكلمات الثقيلة المسمومة وتزرعها في المسامع والعقول المختلفة الأقدار والأفكار والأعمار.

ولأن الكثير من أفراد الشعب الليبي على قدر متواضع من الاطلاع والمعرفة الدقيقة بطوفان المفردات والمفاهيم الثقافية والسياسية التي نتجت عن التغيير السياسي، وما صاحب ذلك من استعمال متكلف لمفهوم الحرية، فقد سارع الكثير من الليبيين، وخاصة الشباب، على التقاط بعض الكلمات من هنا وهناك، وتحويلها على الفور إلى شعارات ويافطات قسمت الشعب الليبي البسيط إلى فسطاطات كثيرة، تزاحم حول كل واحد منها الكثير من المتسرعين، وربما المتهورين، وانطلقوا دونما ترو وتريث واستقصاء يتبنون أفكارا وينكرون أخرى، بل ويتخذون مواقف ويبرمون أفعالا.

أدعو إلى إقامة معرض تعرض فيه تلك الأجسام اللفظية المسمومة بعد اكتشافها وفضحها، وما خلفته تلك الأجسام المفضوحة من آثار ضارة جسيمة. كما تعرض إلى جانبها الأجسام اللفظية الأخرى التي لا زالت تمارس دورها الهدام، ولا زال الكثير منا لمّا ينتبه بعد إلى هذه الكرات اللفظية السامة المتدحرجة وهي تزرع الكره والعداوة بين إخوة الدين والوطن والهدف.

 آخر مظهر من مظاهر رواج سوق صناعة الكلمات المسمومة في ليبيا، هو اتخاذها مؤخرا أساسا لانقلاب عسكري في البلاد؛ فبمجرد مجموعة من الكلمات التي لا رابط منطقي بينها، شكل جنرال متقاعد قوة انقلابية ضاربة، ونشر جيش كلماته المدجج بأسلحة الإشاعة الفتاكة في طول البلاد وعرضها، وسيطر على كل مرافقها، وتولى الضابط العجوز الحالم مقاليد الأمور في ليبيا كلها في بضع دقائق.

صدق أولا تصدق. إنها لعبة كرة الكلمات الليبية!

محمد عبد الله الشيباني






ليست هناك تعليقات: