منحنى عرض
الفكرة وطلبها؛ كلٌ في سبيل!
مدادٌ غزيرٌ يسيل!
أحرفٌ وكلماتٌ يدفع بعضها بعضا دون توقف! أصابعٌ أزال وشيَ بنانها أو كاد طولُ
نقرها على لوحة مفاتيح صلدةٍ باردة! زفراتٌ وآهاتٌ تنطلق من أفئدة متقدة تتحسس فيروسات
أمية المجتمع وغيبوبته وتطردها قبل فوات الأوان وشلل العقول والأذهان!
كل ما ذكرت
جيدٌ ومجدٍ؛ ما المشكلة، ولِمَ كل هذه النواقيس الحمراء؟!
ذلك لأن الرأي
كمنتج فكري نبيل ثمين تغلفه الأحرف والكلمات، إنما ينطلق من أفئدة صانعيه صهارة من
وزفرات وأنات، إلا أن جليد الشارع، وارتخاء حوافه، وترهل جوانبه، وبرودة كائناته، تحيط
جميعها بتلك الكلمات والأفكار، فتخنقها ببرودة الحمق، وتلفها بكفن الجهل، وتقبرها في
لحد ضيق الأفق؛ فإذا بعرائس الحكمة المتوهجة الزاهية، موميات متخشبة.
الكلمة وعاء
النصيحة وجناحها التي تطير به، وإذا بقيت الكلمة على الحال الذي هي عليه الآن من ارتياب
وتوجس وتجاهل وازدراء، فسوف لن تجد الفكرة والنصيحة الآلة التي تحملها إلى حيث يجب
أن تستقر وتزهر وتؤتي ثمارها؛ إصلاحا للنفوس، وتصحيحا للمفاهيم، وتهذيبا للأخلاق،
وبناء لصرح المجتمع.
ستظل الكلمات المشتعلة
والأفكار الجريئة نفخَ رماد، وبعيدة عن تحقيق المراد، ما ظلت آذان وافئدة المخاطبين
بها موصدة؛ فرجل الشارع لا يقرأ، وإن قرأ لا يسكنه همُّ الذي يقرأه، فيصنع من مزيج
الهم والعلم بارود الصدمة المفضية إلى الصحوة، ومن ثم التحول والتطور والتغيير. كما أن المسؤول لا يبحث
في ركام الكلمات إلا عن كلمة تطريه فيحقرها ويزدري أو يغري صاحبها، أو كلمة تقدح فيه،
فيحرقها ويحرق ورقتها وربما كاتبها. أما الكلمات التي لا تحمل خمر الإثارة، وأفيون
المكاء، ولا تلهث وراء الأضواء، فتراها تصطف
بهدوء، وتنتظم برفق، لترصف بتؤدة وتعقل لبنات صرح المجتمع، وتتحرك بثقة ومسؤولية صوب
تحضره وازدهاره. هذه الكلمات، ويا للأسف، لا يعيرها الكثير من الخاصة والعامة ما تستحقه
من اهتمام.
وإذا ما بار
سوق الكلمات والفكرات، فسيصبح الخبير الكبير مساويا، وربما أدنى من الأحمق الأهوج المعربد
الصغير، وهو تماما ما عليه نحن الآن؛ حيث نرى بنك النصيحة والمشورة مشرعا أبوابه، وقد
فاضت خزائنه بأرصدة الأراء والأفكار التي ليس فيها من عيب سوى تواجدها في السوق
الكاسد، وتوجهها نحو العقل الراكد، والذي لا يملك حتى مجرد الفضول لالتقاط نفائس
العقول.
نفائس العقول
تلك، وهي تتكدس على منحنى طلبها الذي سقط أو يكاد في حضيض سوق كاسد راكد، سوف لن
يقترب، فضلا عن أن يتقاطع، مع منحنى عرض هذه المنتجات النبيلة التي ليس فيها من
عيب سوى مسقط رأسها في وطن ندر فيه طلاب النبيل.
محمد عبد الله الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق