بلسمنا الديمقراطي؛ وصفة خاطئة، أم جرعة زائدة؟
مكثنا في الفصول التحضيرية لخوض الغمار الديمقراطي ما يكفي من سنوات؛ حيث جاوزنا
عقودا ستة نحضر لامتحان شهادة الكفاءة الديمقراطية، ولكن دون جدوى!
ولأننا جاوزنا الوقت المعقول في هذه الفصول التحضيرية، فقد تقرر ترحيلنا، والقذف
بنا في العربة الأخيرة للقطار الديمقراطي الكوني مع توصيات تحذيرية بحالتنا الصعبة،
وولادتنا الديمقراطية القيصرية!
في مقدمة هذه التوصيات التحذيرية المدونة بخط أحمر بارز فوق ملف ترحيلنا، كانت
التوصية بضرورة إجراء اختبار الحساسية لمكونات البلسم الديمقراطي الذي سنحقن به في
عتبة عربة القطار الديمقراطي، وكذا مقدار جرعة ذلك البلسم، وقياس أثر ذلك على كياننا
السياسي الواهي الضعيف.
وبالفعل، وبمجرد ارتمائنا في القطار الديمقراطي، مررنا بالكثير من اختبارات
الحساسية الديمقراطية، ولكن أهم هذه الاختبارات كانت عند قيامنا بتكوين المجلس التشريعي،
والذي هو أعلى وأهم جسم ديمقراطي.
هذه هي المرة الثانية التي نشكل فيها مجلس المائتين من نواب الأمة المنوط بهم
إبرام القوانين واتخاذ القرارات السيادية الهامة، وكذا مراقبة الجهاز التنفيذي للدولة.
اختبار حساسيتنا لمجلس المائتين السابق، ترك على سطح جسمنا الغض ما يكفي من
تورمات وعلامات تشير بوضوح إلى عدم تقبل جسمنا السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي والنفسي
لهذا البلسم الديمقراطي الحاد، وجرعته المركزة المفرطة!
مظاهر عدم تقبل جسمنا لهذا البلسم كثيرة، ولكن أهمها هو إقبالنا وبنهم وإفراط
شديد على التهام الحرية ثمرة الديمقراطية الشهية، الأمر الذي تسبب في استنفاذ كل عسل
الخلية الديمقراطية بما في ذلك غذاء ملكة الخلية، الأمر الذي أدى إلى موت الملكة وتفتت
رحم الخلية وتهاوي أركانها.
ليس هناك أدنى شك في أن التهامنا المفرط، بل المجنون للحرية، هو الذي سممنا
جميعا، بل وأدخلنا في حالة غيبوبة فكرية وسياسية، وحتى عقلية!
الشاب وحتى الصبي الحدث تراه يقف على الرصيف محدثا أترابه بكامل الثقة، في أنه
يستطيع الزحف هو وشلته على مكتب وزير، أو رئيس وزراء، أو حتى مجلس ممثلي الأمة، ثم
يجبرهم جميعا على الإنصات إليه، وتنفيذ مطالبه؛ والسبب دائما هو ما أتاحه الربيع الديمقراطي
من زهور وعسل ومنشطات هرمونية قاتلة!
هكذا تحولت الحرية أشهى ثمار الديمقراطية إلى سم زعاف، تخلل جسمنا السياسي وفتك
به وأدخله في غيبوبة لم نفق منها حتى حينه.
مجلس نواب الأمة ها هو يتكون للمرة الثانية، ومرة أخرى، لا يبدي جسمنا السياسي
الواهن المتداعي ما يشي بقدرته على التعاطي معه بإيجابية، أو بأنه قد تجاوز ردة فعله
السلبية السابقة على الجرعة الأولى قبل عامين.
رغم الظروف السيئة جدا التي تمر بها البلاد، ها نحن نختلف ابتداء على موقع انعقاد
المؤتمر بين طرابلس وبنغازي وطبرق، وهو ما ينذر باختلاف أكثر وأكثر في أمور قادمة أشد
وأخطر.
حاولت بهذا إجراء تشخيص ما لحالتنا السياسية، وهو بحق تشخيص بسيط ضحل، إلا أنه
يلامس مشكلتنا في كثير من زواياها، ويطرح السؤال الصعب: هل يجب علينا الإقلاع نهائيا
عن بلسم الديمقراطية، ولو مؤقتا، أو يكفينا مجرد تقليل جرعة هذا البلسم؟!
الإقلاع عن بلسم الديمقراطية، وهو أمر قد لا يروق للكثير، معناه قيام القوى
الفاعلة على الأرض مجتمعة بتشكيل هيئة حكم وإدارة، تتولى تسيير أمور البلاد، وتغض الطرف
مؤقتا عن الممارسة الديمقراطية التقليدية التي جربناها على مدى العامين الفائتين، ولم
ننجح فيها.
أما تخفيف جرعة الديمقراطية فهو قيام البرلمان المنتخب الحالي بتخويل عشرين
من أفراده بالتصدي لأمور الدولة بشكل مباشر، وجنبا إلى جنب مع عشرين قياديا من القوى
الفاعلة على الأرض من رؤساء كتائب وغيرهم من فعاليات اجتماعية مؤثرة. على أن يقوم أعضاء
المؤتمر المتبقين، وكذا بعض قادة الثوار، وبعض أصحاب الرأي والمشورة، بدور المساعد
لمجلس الحكم الأعلى ذي الأربعين عضوا.
حسنة تقليل عدد اعضاء المؤتمر تكمن في تقليص المسافة بين العضو والآخر، وتقليل
المسافة والوقت الذي يحتاجه أي عضو في توصيل فكرته للآخر ، وكذا تقليل الاحتكاكات لقلة
فرص الملامسة والاصطدام بين أعضاء المؤتمر.
هذا، أو أي شيء يشبه ذلك، وذلك حتى لا نلدغ من جحر الديمقراطية أكثر من مرة!
محمد عبد الله الشيباني