الثلاثاء، ديسمبر 13، 2011

سنة أولى ديمقراطية "2"


سنة أولى ديمقراطية "2"

بدأ الدرس الثاني من دروس العام الأول من السنة الديمقراطية الليبية الأولى، وقامت السبورة الذكية من تلقاء نفسها بتخزين محتويات ونتائج الدرس الأول، معلنة بشعارها الترحيبي المعهود استعدادها لاستقبال مدخلات الدرس الثاني.

لم تتضمن مدخلات الدرس الثاني سوى كلمتين هما:

"من أنتم؟"

بمجرد إدخال هاتين الكلمتين قامت السبورة بإصدار أصوات وألوان تحذيرية مثيرة جعلت التلاميذ يضجون، وطلب الكثير منهم الإذن بالتعليق، فأذن المدرس إلى أحدهم الذي قال متسائلا:

ــ  وهل هذه العبارة تمثل ملمحا من ملامح حقبة الاستبداد يا أستاذ؟!
ــ أجل. بل إن هذه العبارة من أهم الملامح وأخطرها.
ــ الكثير منا لم يعرف عن هذه العبارة سوى أنها أحد العبارات المشئومة التي قذف بها في وجوهنا المستبد القذافي وهو في حالة غضب وانفعال.
ــ هي كذلك، ولكن ما يعنينا منها أهم من ذلك وأخطر.
ــ كيف. هلا وضحت أكثر يا أستاذ؟
ــ عبارة "من أنتم؟" هذه في خلقتها اللغوية الأولى كانت مجرد كائن لفظي استفهامي بريء، وتداولتها ألسنة الناس بمختلف لغاتهم على هذا الأساس، حيث كان قائلها الطيب البسيط مجرد شخص يريد التعرف على من يوجه إليه استفهامه، بهدف التعرف عليه والاقتراب منه.

ولأن زمن الصفاء في الدنيا قصير، وبسبب ما طرأ على الحياة من تطور وتعقيد؛ لم يعد مجرد السؤال الاستفهامي البريء في اللغة كافيا، الأمر الذي اضطرت معه هذه العبارة إلى تحوير نفسها للقيام بوظيفة أخرى موازية لوظيفتها الاستفهامية الأصلية، وهذه الوظيفة الطارئة هي الوظيفة الاستنكارية الكريهة.

عندما زعق الدكتاتور القذافي بهذه العبارة "من أنتم؟" أجمع كل من سمعه، مهما كانت لغته، على أن القذافي لم يقصد من سؤاله هذا مجرد الاستفهام عن الآخر بهدف التعرف عليه وفهمه، ومن تم التعامل والتعايش معه كإنسان له حقوق وعليه واجبات، بل كان يقصد وبكل وضوح استنكار الآخر وتحقيره وتجريم فعله. وهو أمر دأب عليه المستبد القذافي ومناصروه منذ عرفتهم الدنيا.

ساد هذا الملمح، ملمح عدم قبول الآخر وتهوينه وتجريمه، حياتنا، وصبغ هذا السؤال الاستنكاري معظم خطابات وأحاديث الكبار، ثم تسلل إلى من هم دونهم بفعل القدوة تارة، وتارة أخرى بفعل العدوى، حتى طغى هذا التساؤل الاستنكاري البغيض على السؤال الاستفهامي البريء.

إبان ثورتنا الإعلامية الموازية لثورتنا الحربية على الاستبداد كان لنا كل الحق في طرح السؤال الاستنكاري"من أنتم؟" على القذافي وعصابته، وذلك على أساس المعاملة بالمثل. ذلك لأن القذافي وعصابته تعدوا كل الحدود في احتقار الآخر وبخس حقه، بل وأقفلوا أمامه كل الأبواب، وحسبوا أنفسهم أصحاب حق مقدس في الحكم والهيمنة، وجعلوا من كبيرهم القذافي  نصف إله.

لقد أجاب الليبيون القذافي إجابة بليغة عن سؤاله الاستنكاري "من أنتم؟"، وهي إجابة بلغت حدا من البلاغة والتأثير أنزل القذافي من مرتبة الألوهية وأرجعه إلى بشريته، كما رد لليبيين حقهم الآدمي وكرامتهم البشرية المغتصبة. بل إن هذه الإجابة بلغت حدا أكبر من ذلك، وذلك بقيامها باستئصال صيغة الاستفهام الاستنكاري نفسها من معاجم السياسة والاجتماع.

انتهت الثورة وبدأت الدولة، وتغيرت أشياء كثيرة، كما تلاشت العديد من العبارات التي ارتبطت بالحقبة الاستبدادية السابقة، ولكن وللأسف الشديد، لم يطرأ على عبارة "من أنتم؟" الاستنكارية البغيضة تغير يذكر.


لازالت عبارة "من أنتم؟" الاستنكارية البشعة تحتل في أذهاننا مساحة كبيرة، وتتربع على ألسنتنا، وتسبقنا إلى من نخاطبهم؛ فيبادلوننا استنكارا باستنكار واحتقارا باحتقار ورفضا برفض.

نهض أحد التلاميذ، وقال عذرا يا أستاذ لقد أسهبت كثيرا، ولم توصلنا بعد إلى "زبدة" القول.
ــ كأنك تشير إلى ضرورة اتباع ما درجنا عليه في درسنا السابق من خطوات تبدأ باستدعاء ملامح العهد البائد السيئة، ثم استبدالها بأخرى جيدة؟
ــ أجل يا أستاذ.

وفجأة تدخلت السبورة الذكية، بعد استقبالها وتحليلها لما قاله المدرس وكذا تساؤل التلميذ، وأصدرت صوتها التنبيهي المعروف المؤذن بانتهاء الدرس مصحوبا بالنتيجة التالية:

ــ "من أنتم" الاستفهامية في استعمالها الاجتماعي السياسي هي صمام معرفة وتفاهم ومظلة وئام وقبول وتفاهم.

ــ "من أنتم" الاستنكارية في استعمالها الاجتماعي السياسي عبارة تختزل كل معان الاستبداد والتسلط والتعالي، وهي معول هدم لبنيان الجماعة وإضعاف لها.

النتيجة: رسوب معظم التلاميذ، وذلك بسبب ما علق في ألسنتهم من عبارة "من أنتم؟" الاستنكارية البغيضة.

محمد الشيباني

ليست هناك تعليقات: