تعداد الأخطاء لمجرد التعداد فحسب، دونما
اتخاذها مجسا لتقدير وتحديد وتحسس ما يحيق بنا من أخطار، هو مجرد رياضة ذهنية
عبثية، وربما لون من الفضول المستهجن الساذج لتصيد أخطاء الآخر وتسجيل الأهداف في
مرماه والتصفيق لخسارته تفكها أو شماتة. وهذه العادة عند تفاقمها تصبح مرضا نفسيا
يعبر عن انهزام ذات صاحبه الذي يتخذ من عادة تخطئة الآخرين سلوانا له وتنفيسا
لعقده.
إعلاء الصوت بالنقد الهادف البناء هو عمل
ديمقراطي هادف حرمنا منه طيلة حقبة الاستبداد المقيتة، وحُق لنا وقد دفعنا ثمن
تذكرة دخول النادي الديمقراطي المكلفة أن نمارس البوح الممنوع سابقا المشروع
حاليا.
بيد أن انهماكنا في تسجيل أخطاء من اخترناهم
ديمقراطيا وخولناهم تسيير دفة الدولة ولدرجة باتت تربك هؤلاء المسئولين وتمنعهم من
أداء المهام الجسام والمشاكل العظام الموكلة إليهم لهو أمر يبعدنا عن الهدف الذي
نروم.
ويزيد الطين بلة أن جبال الأخطاء المزعوم
اصطيادها وما يصاحب ذلك من جلبة وغبار مثار من شأنه أن يضاعف من غشاوة عيوننا
فتبدو لها الأشياء على غير حقيقتها، ويزيد من قصور عقولنا فتعجز عن إدراك الخطأ
الجسيم، وربما عميت عن الخطر المدلهم العظيم.
حديث الكثير من الناس، وخاصة الشباب منهم،
وهم ينتقدون أداء الحكومة أو المؤتمر الوطني أو غيرهم من أجهزة الدولة خلال الفترة
الحرجة من عمر الثورة يتركز معظمه بعيدا عن الثورة واستحقاقاتها ومستهدفاتها
وغاياتها.
نعم ليس للثورة التي صنعناها على عجل أية
أجندة سوى ما كنا نحمله من عزيز الأمنيات لحياة طاهرة من أرجاس الدكتاتورية وحكم
الفرد المتسلط الظالم الذي أفلحنا في إسقاط رأسه، ولكننا لم نفلح حتى الآن في
إزالة أقل القليل من وسخه وخبثه ورجسه.
كتل أدران النظام السابق الكبيرة على مستوى الجهاز
التنفيذي والرقابي لا تزال متكدسة في تروس عجلات القاطرة؛ فلا وزير استقر في مكتبه
كما ينبغي له أن يستقر، وقد أمسك بزمام الأمور ودانت له مقاليد السلطة التي يواجه
بها المسئولية، ولا جهاز رقابي تربع في المدى الموكول إليه وأحكم قبضته على مجريات
الأمور فيه.
بقدر ما سرني أن يحيل رئيس المؤتمر الوطني
ملف مصروفات الحكومة السابقة للتدقيق من قبل ديوان المحاسبة بسبب ما قيل عن شبهة
السفه والتبذير والإسراف فيه، فقد ساءني تأخر هذا التدقيق لما بعد الصرف وتحقق
التلف!
أفلح رئيس المؤتمر في تسجيل الخطأ، ولكن
الدولة كلها فشلت في تحسس خطر السفه والإسراف والتبذير وربما الفساد قبل وقوعه
والنجاة من كلاليبه!
ذلك كله على مستوى رأس هرم الدولة، أما
ظاهرة الإسراف في تسجيل الأخطاء والتعامي عن تحسس الأخطار الجسيمة فهي مستشرية
كثيرا في قاعدة الهرم.
في المدى المكاني الذي يحيط بمحل سكناي في
ناحية من نواحي العاصمة طرابلس لا تزال أدران حقبة القذافي تملأ كل زاوية؛ فلا
شيء مما كنا نسعى إليه تحقق، بدءا من إصلاح الطرق التي نسلك، مرورا بتطوير
مرافق الحياة الأخرى من مدارس ومستشفيات وحتى شبكات الصرف الصحي وقنوات المياه،
ولكن ورغم كل تلك العيوب الصارخة الصادمة، فإنك ما تكاد تقترب من اثنين أو أكثر
إلا وتجدهم يتلون صحائف اتهام طويلة ممتدة تطال كل مسئول، بدءا من رئيس المؤتمر
الوطني وحتى عضو المجلس المحلي بالمنطقة. والحالة ذاتها تراها بوضوح أكثر، وبشكل
أقذر في فضاء البوح الإلكتروني الواسع المنفلت.
المؤسف أن طاقة الثورة والتغيير لدينا اتخذت
المسار الخطأ، وهو احتراف تسجيل أخطاء الآخر، وذلك لسهولة ارتياد هذا المسار
وتحقيق الأهداف الرخيصة فيه، مما نأى بنا بعيدا عن مسار الثورة الصحيح، وهو
التغيير الحقيقي لواقع الحال المزري والتحسس الواعي للأخطار التي تتهددنا من كل
مكان.
أهم ما ينشأ عن شيوع هذه العادة السيئة
واستفحالها هو تضاؤل مستوى الثقة بين فئات المجتمع وتخاذل أفراده ومن تم انهزامهم.
كما تعتبر هذه العادة المرضية أحد أهم أسباب
إبطاء تشكل النخبة الراشدة الفاعلة التي تحرك المجتمع نحو أهدافه، ذلك أن ممارسة
تخطئة شخوص ورموز القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة إنما هو دك لصرح مؤسسات
المجتمع وتسريع لتدهورها وسقوطها بدلا عن دعمها وتقويتها.
محمد عبد
الله الشيباني