أيها الليبيون المطالبون بالتعويض: ليبيا
مفلسة فارفقوا بها، أو فعزاؤكم فيها!
ثمة حقيقة يدركها أقل الليبيين ذكاء؛ ألا وهي
حقيقة وقوع ليبيا فريسة هدر مادي ومعنوي استمر العقود الطوال، والتهم الطبقة
المنظورة من أصولها المادية والمعنوية، وها هو ينشب أنيابه في نخاع هذه الأصول وغطائها
المقوم ماديا بسبائك الذهب لدى المصرف المركزي أو ما يعادلها، وكذا المقوم معنويا
بسبائك سيادة الوطن وكرامة المواطن التي ليس لها أي معادل، والتي إذا استنفذت لا
يمكن تعويضها بشيء.
المؤكد الآن أن الأصول المادية والمعنوية
لوطننا ليبيا مهددة بانكشاف غطائها، وذلك بسبب الاستهلاك الجاري الجائر، بل الالتهام
الغريزي المفرط لها، وبأيدي المواطنين الليبيين أنفسهم الذين يطرقون وبعنف باب
دولتهم، مطالبين بالتعويض المادي والمعنوي العاجل والفوري المرهق، دون أي تقدير
لحالة الإنهاك التي تعيشها محبوبتهم المشتركة: ليبيا!
لم يشفع للدولة الليبية المفلسة الدفع بأن
هؤلاء الدائنين المطالبين بالتعويضات
المنهكة، هم بطريقة أو بأخرى من ساهم في حالة المديونية المرهقة التي تعيشها دولة
ليبيا الجديدة الغضة، ذلك لأنهم كانوا هم النسيج الذي تكوَّن منه الأخطبوط الذي
التهم نفسه بنفسه، وذلك وفقا لدرجة اقتراب أي منهم وبعده عن بؤرة الجماهيرية
البائدة التي أورثت ليبيا المسكينة جبل الالتزامات الرازحة تحته الآن!
وفي المقابل فإن جميع هؤلاء الدائنين الليبيين
المطالبين بالتعويض المادي والمعنوي، يُلبِسون الدولة الليبية البريئة ثوب
القراصنة الكثر الذين اختطفوها السنين الطوال، وأوغلوا في مقدراتها المعنوية
والمادية، وأوصلوها إلى حالة المديونية الحادة القائمة.
وكما هو معلوم، فإن الالتزام المادي الضخم الذي
تواجهه ليبيا، هو ذلك التعويض المادي الضخم، والمستحق لضحايا النظام السابق، سواء
كانوا أصحاب عقارات مغتصبة، أو مساجين مظلومين، أو أولئك الذين زج بهم القذافي في
حروبه العبثية بالداخل والخارج، وغيرهم ممن لحق بهم ظلم القذافي الذي لم يستثن
أحدا.
هذا التعويض المادي الضخم المطالَبة به
الدولة الليبية الحالية، من الممكن إعادة تقديره وجدولته بما لا يساهم في إفلاس
الدولة بالكامل، ومن تم إعلان فشلها، وربما عجزها عن دفع أي التزام.
بيد أن المشكلة الكبرى، والطامة العظمى، هي
تلك التي يحتويها ملف التعويضات المعنوية الملغَّم، والمكتظ بفواتير ثقيلة موقعة
من جانب مواطنين ليبيين يدَّعون بأن لهم حقوقا معنوية اغتصبها النظام الدكتاتوري
السابق، ومنعهم من ممارستها، وهي حقوق لابد من استيفائها كاملة، والآن، ودون
تأخير، كما يطالبون.
أبرز هؤلاء الدائنين وأخطرهم، هم أصحاب
الأيديولوجيات المتنافرة الذين يستحيل تعويضهم مجتمعين، وفي وقت واحد، ولابد من
تراجع كل منهم خطوة إلى الوراء وتنازله، ولو مؤقتا عن مطالبه التي ينظر إليها
الطرف الآخر بأنها من صميم ما يستحقه هو من تعويض! حقا إنها فزورة!!!
وحتى لا أستمر في التشخيص الخجول الجبان لهذه
الحالة، يجب أن نعلم أن كلا ممن يُعرفون بالتيار الإسلامي، والتيار العلماني، والذين
وضعوا لهذين التيارين فسطاطين متقابلين، وصنعوا لهما جبهتين مشتعلتين في وسط نسيج
الوطن المنهك الهش، هم أشد وأقسى الدائنين المعنويين الطارقين الأن وبعنف أبواب الدولة
الليبية، وهم من يأخذون ليبيا إلى هوة الإفلاس المعنوي الذي لا شفاء منه.
لابد
وأن يجد دعاة التيار الإسلامي فسحة كبيرة في فقهنا الإسلامي تحض على إمهال المفلس،
والذي هو دولتهم. كما أن هذا الفقه لا يخلو أيضا من فقه الضرورات وتراتبها، ومبدأ تفضيل
التعجيل بدرء الغرم على التعجيل بالتهام الغنيمة. وأي غرم أفدح من الحرب الأهلية
التي أشم دخانها، وأي غنيمة أفضل من وحدة وتوافق ووئام أبناء الوطن الواحد!
لا خوف على ثوابت الدين الواضحة المعالم، الفسيحة
الهوامش، والراسخة الجذور في ضمير الشعب الليبي؛ ودليل ذلك أن هذه الثوابت ظلت
راسخة شامخة على مدار عمر ليبيا الذي واجه أعتى التحديات، وحيث كانت الهوية الدينية
في بؤرة مرمى نيران كل تلك التحديات!
لا خوف من علمانيي ليبيا الذين كما وصفهم بعض
من يعرف غيرهم من العلمانيين، بأنهم" ينحطوا في الخشم"! وذلك لانخفاض
سقف علمانيتهم، والتي لا تصل بحال إلى إعلان دعاتها إنكار هويتهم وهوية آبائهم
وأجدادهم، والتحلل من دينهم، كما يفعل العلمانيون المتطرفون الآخرون. كما لا أظن
أن علمانيينا، وهم على درجة عالية من الثقافة والذكاء، على استعداد بأن يقوموا
بقذف أنفسهم في المجهول، واختزال تعويضهم المقدس بالعيش في دولة مدنية ديمقراطية
التي حرمهم منها القذافي، في المطالبة بسلب الأمة الليبية كلها هويتها الإسلامية
التي وُلِدت وترعرعت في ظلها، والتي في خسرانها خسارة قومية معنوية فادحة تطال
العلمانيين وغير العلمانيين على حد سواء!
أدعو جميع رؤوس التيار الإسلامي المعروفين،
وخاصة أولئك الذين مارسوا التنازل الذكي بمراجعاتهم المعروفة، والذين هم الآن
يجهرون بتألمهم مما تتألم به بلدهم ليبيا جراء وطأة سكاكين التعويض المعنوي الحادة؛
أدعوهم جميعا إلى تأكيد مطلب "التعويض الذكي"، والقبول بحالة المواطن
الصالح، ولو كان فاتر الإيمان، وهو النموذج السائد في النسيج الليبي القائم، وذلك تجنبا
لحالة استفزاز هذه الشريحة من المواطنين، بل وربما تحولها إلى أعداء يشعلون حربا
تأكل الاثنين؛ المشتعل إيمانا، ومقابله الذي وإن ظهر فاتر الإيمان إلا أنه لا يمكن
إلا أن يكون مواطنا له حقوق وعليه واجبات المواطنة التي تظلل الجميع.
كما أدعو أهل الرأي والفكر بمختلف مشاربهم
إلى المسارعة في تجميع الفريقين؛ العلماني، والإسلامي المطالبين بالتعويض المعنوي
الحرج، ومحاولة تفصيل رداء تعويضيا لهم، يتناسب مع حالة الدولة الليبية الراهنة،
متخذين من الرداء التونسي نموذجا لرداء ليبي سابغ، يستر عورة الوطن، ويطفئ حر صدور
مواطنيه المظلومين المطالبين بتعويض معقول، يجبر كسر خاطرهم.
وأخيرا أدعو الفريقين المطالبين بالتعويض
المادي والمعنوي الحاد، التمهل والإمهال في طلب التعويض، وعدم تكريس مبدأ جعل
الدولة الليبية الجديدة كفيلا ووكيلا مسؤولا عن كل تجاوزات النظام الدكتاتوري
الظالم السابق، وذلك حتى لا نفتح الباب على مصراعيه للمتضررين الخارجيين، وهم كثر،
فيتمادون في إرهاق الدولة الليبية، وجعل كل بوائق القذافي من بوائقها التي تستلزم
التعويض. ولعل المطالبة الأخيرة بتعويض متضررين إنجليز عن ممارسات القذافي الظالمة
بحقهم، لهي أوضح ناقوس خطر يجب الاستماع إليه بذكاء، وتوقع حالات مشابهة قادمة
كثيرة.
محمد عبد الله الشيباني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق