الأربعاء، يونيو 08، 2011

أنـَّـا ميلادتش، وعائشة قذافتش




أنَّا ميلادتش هي ابنة الجنرال الصربي السفاح راتكو ميلادتش الذي أعمل القتل في غير بني جنسه، الصرب. أما عائشة قذافتش فهي كريمة العقيد معمر القذافي الذي عمل نفس عمل الجنرال الصربي، ولكن في بني جلدته، الشعب الليبي المسكين.

أنـَّا ميلادتش طالبة طب، كانت فخورة بأبيها الجنرال القائد العسكري الكبير أيما فخر، وكانت تحلم بمستقبل زاهر لها في ظل هذا الأب ذي المرتبة الاجتماعية والسياسية العالية.

لم تمهل الأيام، كعادتها مع كل الأنام، الدكتورة ابنة الجنرال،  أنَّا، طويلا، إذ سرعان ما تتابعت وتعاظمت الأحداث ككرة ثلج، ثم انفجرت حمما من نيران، وسحبا من دخان، غطت سماء تلك العاصمة الحالمة، ساراييفو، والسبب هو الحرب الأهلية، بين قوم ابنة الجنرال، الصرب، وجيرانهم، البوسنيون والكروات.

وبقدر ما حرقت وخنقت تلك النيران تلك البلدة الآمنة، لم تفلت بفعلها هذا تلك الفتاة أنَّا، رغم  رومانسيتها، وعدم  تجاوز عمرها الثلاثة وعشرين ربيعا، فإذا بتلك النيران تغتال تلك الفتاة، وتغتال معها أحلامها الوردية.

لم تطق أنّا أن ترى ما فعل أبوها الجنرال من مآسي، ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء الذين من بينهم المئات ممن هم في سنها، والذين يحلمون ويأملون، تماما، كما هي تحلم وتأمل. كما لم تطق ذلك الإزدواج الرهيب الذي بدا في عيني والدها، واللتان لم تتعود على رؤيتهما إلا حنونتين وادعتين، وبلونهما الأبوي المعتاد، وهو حال ما عاد عليه أمر ذلك الأب الذي ابتليت به أنـَّا المسكينة.

كانت هذه الصورة لعيني أبيها أحد الصور التي التقطتها مشاعر أنَّا، من بين آلاف الصور الرهيبة من حولها، وكانت أكثر من كافية لتدفعها إلى ردة فعل لم يتوقعها الكثيرون من ابنة جنرال لا ذنب لها فيما يفعل الأب. ولكن رومانسية ورقة مشاعر تلك الشهيدة كانت هي صاحبة القرار، قرار الانتحار.

انتحرت أنّا ميلادتش محتجة على ما فعله أبوها، وطهرت نفسها بهذا الانتحار من رجس ذلك الأب المجرم القاتل.


عائشة قذافتش القاطنة على الضفة الأخرى للبحر المتوسط، ابتليت هي الأخرى بجنرال حرب اسمه معمر القذافي، ورأت ما رأته أنَّا الرقيقة من قتل وحرق، ولكنها لم تكن الوجه الآخر لأنّا، بل كانت الوجه المخالف لها تماما.

ظهرت عائشة بعدما فعل أبوها ما فعل، وعلى الملأ، لتقول ما قال الأب والأخ، ولم تجرأ دكتورة القانون على استدعاء ولو بعض تلك المبادئ السامية للقانون التي تجعل من ضمان حياة الإنسان، أي إنسان، ولو كان مطالبا بإسقاط حاكم مُعمِّرٍ كأبيها، أبجدية لها.

وكما اشتهرت أنا بإقدامها على الانتحار استنكارا لما فعل الوالد الجنرال، اشتهرت عائشة بتلك المقولة الشهيرة احتفاء بما فعل أبوها، والتي مفادها أن من لا يحب أباها لا يستحق الحياة.

حرَّمت أنَّا ميلادتش على نفسها الحياة بسبب إثم أبيها، بينما حرَّمت عائشة الحياة على من يستنكر إثم أبيها.


هذه قصة فتاة صربية، وأخرى ليبية، مرت كل واحدة منهما  بحالة مشابهة لما مرت به الأخرى، ولكن ردة فعل كل منهما اختلفت.

لماذا؟

هذا سؤال تلحه علينا مرحلة ما بعد القذافي، وما تتطلبه من إعادة تأهيل لطائفة كثيرة من الليبيين يعانون من مثل ما تعاني منه عائشة التي ترى في أبيها المجد كله.

معمر القذافي، الأب الروحي للثوريين، قام ولمدة عقود بحقن عائلته الصغيرة ومريديه بأوهام الثورة العالمية، والنظرية العالمية، والجماهيرية الأولى، وبأنه هو وثورته ونظريته وجماهيريته وكتابه الأخضر ظاهرة كونية تتميز عن كل ما سواها، وبأن ما جرى على يد القائد من معجزات لا يمكن إلا أن تكون ذات منشأ ودعم إلهي، وبأن هذا القائد هو المجد، وصانع هذا المجد الذي لا يزول.

لا أتمنى لعائشة الليبية أن تنتحر إسوة بما فعلت أنـَّا الصربية، ولكنني أتمنى على عائشة وغيرها ممن فتنوا  بموالاة رجل رأى في نفسه نصف إله أن ينظروا إلى ما آل إليه حال الجنرال ميلادتش، وأن يحاولوا استشعار حالة ميلادتش، وهو في طريقه إلى محكمة الجزاء الدنيوي، وذلك عندما توسل إلى من حوله بتحقيق رغبته الأخيرة، والتي لم تكن سوى المرور على قبر ابنته المغدورة بيديه، الشهيدة أنـَّا ميلا دتش.

ربما يجد ميلادتش ومحاموه بعض المبررات، ولو كانت واهية، وهو يمارس عمله كجنرال في ساحة حرب، ولكنه لم يجد أي مبرر في موت من صدمهم بنفاقه وازدواج شخصيته حتى الموت، ومن بينهم ابنته التي مر على قبرها مستغفرا.

فهل يسارع أبناء معمر القذافي وموالوه ومريدوه، ويستغفرون من فعل معمر القذافي، قبل أن يمر هو على قبورهم مستغفرا؟
لو فعلوا ذلك لاستغفر لهم الشعب الليبي كله.


هناك تعليق واحد:

Mohamed ghellali يقول...

أخي محمد...قرأت لك اغلب ماكتبت..وكلها راقية وتصنع فعلها في شد الآخرين للعيش في اجواء وعبق الثورة...ماقرأته من مقاربة بين ابنتي طاغوتهم وطاغوتنا وبرغم اختلاف ردة الفعل في النتائج..فانه وكما اشرت يحتم علينا طرح بحث امر طبيعة وحجم ثأثير ماصنعه القذافي في من حوله وكثير ممن استخفهم كذلك موضع الدرس والبحث ، حتي ننقذ اجيالا قادمة من الاصابة بذلك الوباء...حفظكم الله وهاهي قد صارت قريبة باذن الله.