الأحد، أبريل 14، 2013

وديعة الشهداء


وديعة الشهداء؛ هل هي معادلة صعبة، أم مجرد غنيمة ولعبة!

يمكن القول أن الشهيد هو من قدم أعز ما يملك، حياته، في سبيل شيء لن يستمتع أبدا به في حياته. والشهداء في رحيب مضمارهم يتمايزون فيما بينهم، بما يقدمونه من ثمن، وما يتقاضونه من جزاء.


بالإضافة إلى ما يتقاضاه الشهيد من ثمن مجز في دار الجزاء، يفيض عليه مولاه الغني بأعطيات أخر قوامها غراس دنيوي، ووديعة خير وحق وعدل، يعود ريعها ويتفيأ ظلالها كل من يخلف ذلك الشهيد ويرثه.

شهداء ليبيا هم كل من ربطتهم بها وشيجة التضحية من أجل غرس شجرة الحق والعدل والخير في ترابها، وهم أفراد تلك الكوكبة من أصحاب الشهامة الذين يصعب تحديد أولهم، كما لا يمكن لأحد أن يقول إنه آخرهم، وذلك مادام الصراع على هذه الأرض محتدما بين الحق والباطل والشر والخير والظلم والعدل.

إن المعادلة التي ثَقُل جانبها الأول بما أفاض به الشهيد من تضحية، تقصر الدنيا وما فيها على بلوغه، وتعجز معاييرها على تحديده، لهي معادلة لا تتعادل إلا بما نقوم به نحن الأحياء خلفاء الشهيد من ملء جانبها الثاني، وبثقل يساوي ثقل تلك التضحية المقدمة سلفا.

أجل إنها معادلة في غاية الصعوبة، وخاصة في وعي من عاش ووعى ذلك الموقف المهيب الذي تم خلاله اتخاذ أصعب قرار يمكن أن يتخذه حي راشد عاقل عندما يُقدِم بملء إرادته على قطع حياته، وهو في عنفوان حياته، ويتجرع مختارا كأس الموت المر، ويبيع كل ما يملك دونما شيء ملموس يقبضه!

وبقدر صعوبة ذلك الموقف على أبطال ذلك المشهد، الشهداء، فإن موقفنا نحن الأسوياء خلفاء الشهداء ووارثي ودائعهم ليس بأقل صعوبة!


إن الذي يحس بصعوبة هذه المعادلة، ويقدر الثقل الذي أمال جانبها، هو فقط من يسكنه هَمُّ قضاء دين الشهداء عليه، ذلك الدين الذي لا يمكن قضاؤه إلا بتوازن جانبي تلك المعادلة الصعبة.

شجيرات الحق والعدل والخير انتشرت فسائلها المباركة العديدة بعدد كوكبة الشهداء الأبرار في كل ركن من أرض ليبيا الفسيحة، وامتدت أغصانها الغضة بقدر عمر هذه الشجيرات التي استودعها إيانا غارسوها، والتي يتوقف مصيرها ومآلها على ما نملكه من شهامة، وما نتحلى به من صدق ووفاء.

أكثرنا شهامة وصدقا ووفاء، هم أقربنا شبها بشهدائنا، وأكثرهم التصاقا بشجيرات الحق والعدل والخير، وألينهم قلوبا عليها.

أما أقلنا شهامة ووفاء، وأشحنا بذلا وعطاء، فليس مطلوبا منهم سوى التعفف عن قطع براعم هذه الشجيرات، واستعجال جني ثمارها قبل نضجها، وما يتركه ذلك من أذى قد يهدد تلك الشجيرات في حياتها وبقائها!

إلا أن أراذلنا وأعداؤنا وأعداء الشهداء، هم بعض منا، وربما أكثرنا، والذين نراهم الآن، وعلى مرأى كل عين، ومسمع كل أذن، يعمدون إلى شجرة الحق والعدل والخير، فيقطفونها من جذورها، ويستخفون بوديعة الشهداء، فيهدرونها!

وبعيدا عن حلبات التنافس السياسي الكرتوني، وما يجري فيها من صراع أقل ما يقال عنه حدوثه قبل وقته، وإفراطنا في تناوله والتعاطي معه؛ لا زلت أرى، ويرى الكثيرون غيري، هناك وسط الأفق، تلك المعادلة التي ذكرت، وقد مال أحد جانبيها ميلا كبيرا بما حمل من ثقل، كما أرى جيش العابثين، صغارا وبالغين، عواما ورسميين، وهم ينهشون تلك الوديعة، كل بالموهبة التي يملك، والطريقة والتقنية التي يجيد، والتي هي في معظمها من إرث عقود الاستبداد والطغيان والظلم والشر والفساد.

كنا إبان عصر شلل الإرادة الخيرة، ننتظر بفارغ الصبر فك أسرنا، وكسر طوق المبادرة لدينا، ظانين أن كلا منا بمجرد حدوث ذلك سوف ينطلق مسرعا نحو مضمار الإصلاح بادئا مما يليه، كإصلاح حفرة بالشارع الذي يقع بيته فيه، ويغرس شجرة في رصيفه ويضيئ نواحيه، ثم لا يتوانى عن فعل كل خير ومحاربة كل شر في البحر والبر.

كنا نحسب أن ورشة الإصلاح والتطوير ستظل جمالوناتها كل أرض الوطن، مصلحة قبل انقضاء العام الأول من عمر تحرر إرادتنا ما أفسده القرصان في عشر سنوات!  

أجل كنا نحسب ذلك وأكثر من ذلك، إلا أن الذي حدث لم يكن في الحسبان!

لم يكن في الحسبان أبدا، على الأقل في نطاق حساباتي البسيطة، أن يتحول ثوار الأمس القريب إلى خصوم، وعلى شيء لم نشهد تخاصمهم عليه إبان أيام وشهور مقارعة الطغيان، ثم ليتحول ذلك الخصام إلى اصطفاف أيديولوجي من أهم عيوبه وأشنعها شق صفوفنا والمعركة لم تنته بعد!

لم يكن في الحسبان أن يتطاول حديثو التجربة والمران المدعومون بقليل من الحق وكثير من البهتان، ويمدوا أيديهم إلى كل شيء ليعرقلوه ويفسدوه، بدءا من ساحة البرلمان، وحتى قوانين المرور في الشارع والميدان!

كما لم يكن في الحسبان، وبعدما عانينا كثيرا من الحرمان، أن يصبح التعفف بيننا في خبر كان، فتتحول مداواة الجرحى إلى مقاولات، وتصبح التعويضات صفقات، وتصبح المليارات في ميزانياتنا كأنها آحاد أو مئات!              

وأيضا لم يكن في الحسبان أن نتنكر لبعضنا، وبدل أن نجعل من قطرات دم الشهداء رابطا مقدسا نشطب في محرابه تلك الخطوط الواهية الملوثة لخريطة وطننا، قمنا بدلا عن ذلك بتحويل دماء الشهداء إلى خطوط ملتهبة حمراء، شطرت الوطن أجزاء، أو كادت!

أجل كل هذا وغيره لم يكن في الحسبان، كما لم يكن في الحسبان أن نجعل من وديعة الشهداء الغالية شيئا غير ذي قيمة وميزان، وبدل أن تكون هذه الوديعة معادلة صعبة، جعلناها مجرد غنيمة ولعبة!

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

هناك تعليق واحد: