كابوس عسكرة
الثورة، وحلم تثوير العسكرية!
القارئ المتعجل
تكفيه كلمات العنوان، ذلك أنه رغم طول مقالتي هذه، إلا أنني لم أتمكن من الخروج من
قوقعة الكابوس، وطبقات طيف الحلم !
لا أبالغ إذا قلت
أنَّ ألحَّ وأهم بند في أجندة أعمال الوطن بأكمله؛ بدء من أجندة مؤتمره الوطني
وحكومته، وانتهاء بأجندة أصغر مجلس محلي، هو: علاج مشكلة عسكرة الثورة، وعملية
تثوير وإصلاح وتطوير المؤسسة العسكرية من جيش وشرطة!
وإذا كان تشخيص وتعريف
المشكلة والكشف عن جذورها وخلفياتها هو نصف حلها، كما يقولون، فإن أهم ما يجب أن
نعرفه جميعنا هو أن جذور هذه المشكلة نبتت هناك في كف الدكتاتور الذي ثار عليه
الجميع، والذي هو من سبب في عسكرة الثورة، وأرغم المتظاهرين السلميين على اللجوء
للسلاح، والتحول إلى عسكريين، أجبروا على خوض الحرب، بدل ممارسة فعل الثورة الناعمة
الذكية، وإجراء الإصلاح والتطوير والتغيير السلمي الذي حلموا به. ومن جهة أخرى فإن
الدكتاتور نفسه هو من شوه ومسخ المؤسسة العسكرية، ومنعها من أداء دورها، وجعلها
عمودا من ديناميت يتفجر بتوقيت ماكر محسوب، حيث يحرق أوله كل من يواجه الدكتاتور مواجهة
ساخنة، ثم يتحول آخره، بعد انتهاء المرحلة الساخنة، إلى قنابل موقوتة كثيرة متوزعة
تتفجر تباعا وتحرق كل ما حولها، وهو ما نعانيه الآن، والذي ينسجم تماما مع نبوءة
الدكتاتور ويحقق حلمه في جعل ليبيا من بعده نارا حمراء، كما وصفها الدكتاتور صراحة
بلسانه!
ولمشكلة العسكرتاريا صورة أخرى يعرفها الجميع، وهي أن النظام السابق أسكن عقلنا الباطن العسكرتاريا، بل وصبغ بها أفكارنا وسلوكنا؛ فرئيسنا القذافي وعلى مدى عقود أربع لم يكن عقيدا في معسكره باب العزيرية، إذن لهان الأمر، ولكن القذافي نفث دخانه العسكرتاري في كل مكان من ليبيا؛ فالرجل عسكري، والمرأة عسكرية، والمدرسة عسكرية، والجامعة عسكرية، والمصنع عسكري، والوزير عسكري، والطبيب عسكري، حتى أبناؤه عمدهم بالدخان العسكري، وأعطى لكل منهم رتبة ومنصبا عسكريا!
إن أقل ما يمكن أن
يفيدنا به الإلمام بهذه الحقائق واستيعابها، هو جعل كل دافعي ضرائب الثورة في صف
وفريق واحد يجعل من تسفيه نبوءة الدكتاتور هدفه الأول، وهو هدف لا يمكن أن يتحقق
إلا بإزالة كابوس عسكرة الثورة الجاثم فوق صدورنا الآن، وتحقيق فعل تثوير وتطوير عسكرية
الدولة الليبية الذي يداعب أحلام كل ليبي!
ولكن لماذا
التركيز فقط على العسكرة والعسكرتاريا؟! ألا توجد نقاط ضعف وعقبات كأداء كثيرة
أخرى عرقلت الثورة، وأبطأت من قيام بناء الدولة الليبية؟ فبالإضافة إلى عقبة العسكرتاريا،
هناك عقبة الثورتاريا، وأيضا عقبة السياستاريا، ذلك أن كلا منهما أغرانا ببريقه؛ فأغرقناه
بسيل عاطفتنا حتى انتفخ وتضخم وبلغ درجة الترهل، فعجز وأعجزنا عن تلبية طموحات
المرحلة الصعبة التي نعيش!
أجل، إن الإفراط
في جرعة الثورة، والانتشاء بخمر السياسة، عملا كلاهما على إبطاء المسيرة، إلا
أنهما لم يقودا إلى ما قاد إليه التسربل بالسلاح، والتكلم من خلال فوهات البنادق،
والحنحنة بأصوات الديناميت.
يتحاور، وربما
يتعارك السياسيون والثوريون في حلبات الصراع السياسي والفكري، وهم يحملون شتى أنواع
أسلحة الفكر والثورة والسياسة، ثم يخرج جميعهم سالمون من حلبة الحوار؛ إلا أن
حوارا عسكريا ديناميتيا قصيرا جرى مؤخرا في معسكر الكويفية وصلاح الدين، خلَّف
جرحا وطنيا عميقا بعمق إزهاق أكثر من خمسين نفس، حرّم خالقها قتلها إلا بالحق!
من المؤكد أن
حاملي السلاح واقعون الآن تحت ضغط نفسي يجعلهم يتوجسون خيفة من كل دعوة تجردهم من
سلاحهم، حتى مع علمهم بأن ذلك لابد منه لإقامة الدولة وبناء قوتها العسكرية
المنضبطة، وهو توجس في محله وتبرره الحالة التي عليها الدولة، ولابد لكل من يدعو
هؤلاء الشباب إلى وضع سلاحهم أن يؤمن لهم الوقاية من خيبة الأمل ونكران الجميل التي
باتت رائحتها تملأ المكان، ويؤمنهم أيضا من تطبيق العدالة الغبية، كعدالة العزل
البائسة.
لابد لي أن أعترف أنني
عند بلوغ هذه المرحلة من الحديث، والذي أحاول من خلاله أن أساهم في كتابة وصفة
علاج داء الوطن، قد أحسست بأنني أمام معضلة رياضية منطقية معقدة جدا، ليس أعقد
منها ما نعرفه عن الأحجية المعروفة واللغز المحير الشهير: أيهما أسبق وجودا الدجاجة أم البيضة!
ظني بأن الدجاجة
أسبق من بيضتها، والدولة أسبق من الجميع!
إذن:
هل يتمترس الثوار
في خنادقهم في انتظار قيام الدولة، ومن تم يسلمون أسلحتهم لها؟
أم أن الثوار جميعهم،
وما لديهم من سلاح هم بعينهم اللبنات التي يشاد بها صرح الدولة؟
لا جواب لدي! ولا
أحد يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال إلا أقطاب القوة العاملة على الأرض، والممثلين
في أولئك القادة من الثوار، والذين ربما يناهز عددهم عدد أصابع اليدين، بحيث يقومون
مجتمعين بتشكيل فريق يضع على عاتقه إعداد وإبرام أجندة سلام الوطن، وتثوير وتطوير
جيشه وشرطته.
وإذا ما سُمِح لي
بالمساهمة في وضع هذه الأجندة؛ فإنني لن أساهم بأكثر من الدعوة إلى تحصين الشباب
أعضاء الكتائب، حالا ودون تأخير، من التأثر بأي دعوة حزبية أو أيديولوجية أو قبلية،
عدا عن حزب لبيا وأيديولوجية ليبيا وقبيلة ليبيا، وهو ما يهيئهم للعيش والعمل في تلك
الأجواء المحايدة التي تتميز وتختص بها المؤسسة العسكرية.
بقدر ما يتحمل
قائد كل كتيبة من كتائب الثوار مسئولية ما تحت يده من كتل بارود ومئات وربما آلاف
من حاملي السلاح من شباب ليسوا كلهم على قدر كاف من الشعور بالمسئولية، فإنه يتحمل
مسئولية أكبر في تهيئة هؤلاء الشباب وترويضهم للدخول إلى حظيرة الجيش الحكومي
الوطني عاجلا أو آجلا، وهو أمر يحتم على قادة هذه الكتائب القيام بندوات ومحاضرات
يكون هدفها الأكبر التخفيف من حدة إفراز
هرمون العسكرتاريا في دماء الشباب الذين يقودونهم، وذلك قبل التفكير في نزع فتيل
انفجار ما يحمله هؤلاء الشباب من سلاح.
إن الجميل الذي
صنعه وأسدوه هؤلاء الثوار القادة لوطنهم، سوف يكون ناقصا مشوها، إذا لم يكلل
بالهدية الكبرى والجميل الأعظم؛ بناء الجيش الوطني، هذا الجيش الذي لن يقوم إلا
بتحول هذه كل الثوار إلى لبنات لا يميزهم عن بعضهم البعض سوى الرقم المسلسل الذي
يكلل به كل منهم صدره.
أعلم أن هذه
المقالة قد غلب عليها الطابع الوعظي الإرشادي البسيط الذي يزفر به كل من يسكنه هم
الوطن.
نحن المواطنين
العاديين الضعفاء لا نملك إلا الدعاء.
أنتم أيها الثوار
الأقوياء مسئولون عن دفع البلاء.
محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق