الثلاثاء، أكتوبر 04، 2011

وول ستريت الهيرة

 وول ستريت الهيرة، بها شركة استثمارات يتيمة ولكنها كبيرة!

"تكلم كي أعرفك"، عبارة يقولها كل من أراد استكناه مكنون شخص تعذر عليه فهمه، أما شركة في حجم الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية، فإن مكانها هناك في بيداء الهيرة، هو أطول وأبلغ  الألسنة التي تنطق بها هذه الشركة، وتعبر عن حالها البائس الشاذ.

لو نطقت هذه الشركة لكتبت شكواها بالدماء والدموع، وذلك لما عانته من انفصام مخيف بين اسمها وشكلها الملوح بالاستثمار، ِوواقعها البعيد جدا عن كل جدوى واستثمار، وهو واقع مرٌّ مخز يبدأ من سوء اختيار مكان المقر، وربما لا ينتهي عند سوء إدارة موارد الرجال، وعقم استثمار موارد الأصول والأموال.   

على مسافة وجوب قصر صلاة مُصلي، وربما الترخيص بإفطار صائم، يسافر كل يوم ما يزيد على المائتين من الموظفين لممارسة عملهم في مجال الاستثمار المالي الخارجي الصرف، والمتمثل، كما هو معروف، في ملكية وإدارة الشركات، والاستثمار في الأصول الثابتة والمنقولة، والمضاربة في البورصة، وغير ذلك من أنشطة مالية كثيرة.

تزاول الشركة عملها المالي هذا في منطقة شبه صحراوية لا علاقة لها البتة، وعلى الإطلاق، بأسهم أو سندات، أو دولارات، أو يوروات، أو مصارف، أو بورصات، أو شركات، أو فنادق، أو عقارات.

وكما يسافر البشر كل يوم إلى ذلك المكان النائي المقطوع، قاطعين ما يقارب المائتي كيلو متر ذهابا وإيابا، تسافر الأوراق كما يسافرون، وتقطع المسافات التي يقطعون، حيث تـُشحن ورقة صغيرة نحيلة لا يتجاوز وزنها بضع جرامات على سيارة خصوصية بسائقها، وربما بمرافق له وآخر يحرسهما، وذلك من أجل أن تسلم هذه الورقة إلى دائرة حكومية، أو مصرف، أو غيره من الجهات التي يتواجد كلها في مدينة طرابلس البعيدة، وبتكلفة تقديرية لا تقل بحال عن الخمسين دينارا للورقة الواحدة، وذلك كما قدرتها بعض الدراسات المحافظة جدا.

إن شركة على هذا الحال من سوء الإدارة الفاضح، سوف يصعب كثيرا عليها إقناع المستثمرين الخارجيين الضالعين في فنون الإدارة وحسن استثمار الموارد، بان يعقدوا معها الصفقات، أو يتبادلوا المصالح معها، ويبرموا الاتفاقيات .
   
لابد أن الجميع طرق سمعه ذات مرة اسم هذه الشركة العتيدة، الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية، والتي، وكما هو معروف، أوكل إليها منذ ما يقارب من الثلاثة عقود القيام باستثمار الفوائض المالية للدولة الليبية في مشاريع وشركات خارجية من أجل تحقيق الربح المادي، وكذا تحقيق بعض الأهداف المعنوية الأخرى من سياسية وغيرها.

في ظل درجة شفافية متدنية جدا كالتي كنا نعاني منها في زمن الطاغية القذافي، صعب على الكثير منا معرفة ما يهمه معرفته من شئون بلده، وطريقة إدارة أصولها، وخاصة تلك الأصول التي تدار بفلسفة هجين، سياسي اقتصادي. بل لم يتات للكثير منا مجرد الإلمام بهذه الاستثمارات، ومدى غلبة الشق المادي فيها على الشق السياسي، ذلك الشق الذي اتخذه الفاسدون السابقون مشجبا علقوا عليه أخطاءهم التي لا تحصى، وبوائقهم التي لا تعد.

كانت شركة الاستثمارات الخارجية، ولسنوات عديدة، هي الجهة المعنية بالاستثمار الخارجي، وتفرعت عنها شركة الاستثمارات الأفريقية، لتتخصص الأخيرة في المنطقة الجغرافية التي يُلوِّح بها اسمها، ثم ما لبث كل ذلك أن تحور هيكليا، واختلط نسيجيا، لتتشكل منه أجسام استثمارية عديدة، كان آخرها، وربما أكبرها، المؤسسة الليبية للاستثمار، اللاعب الاستثماري الأكبر، والمسئولة حاليا عن استثمار جزء لا بأس به من الفوائض المالية للدولة الليبية.

وعودة إلى الشركة الأم، الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية، فإنه مما يضحك ويبكي في ذات الوقت، هو ذلك العمل الكبير الذي قامت به الشركة منذ عام أو أكثر قليلا  من أجل محاولة إعادة هيكلتها، مستعينة بشركات استشارية عالمية، وبتكاليف مليونية، وبضجة مهرجانية قادها مديرها السابق، واستنفر لها فريق من الموظفين المحليين، والمستشارين الخارجيين، ليعقدوا دورات ولقاءات دولية مكثفة ومكلفة، هدفها المعلن إعادة هيكلة الشركة، وتحديث أداءها المالي والإداري. 

تدارس المجتمعون، وعلى مدار الأسابيع، وتباحثوا في كل شيء يتعلق بالجدوى، بدءا من ضرورة سواد اللسان الانجليزي بين موظفي الشركة، وانتهاء بأتمتة أنظمة الشركة وعولمتها، غير أنهم لم يتطرقوا من قريب أو بعيد إلى أمر المقر غير المجدي على الإطلاق!

إن شركة لا تجيد اتخاذ قرار اختيار المكان الملائم لممارسة نشاطها، هي أضعف من أن تقوم بإعادة هيكلة بنائها الإداري والوظيفي، وإن كل إصلاح أو إعادة هيكلة تقوم بها وهي تتجاهل هذه الحقيقة الدامغة والمأساة الناطقة " المقر "، بل فلسفة مكان المقر، هو إصلاح مشوه، لا يؤدي إلا إلى مزيد من الازدواج، بل والاختلال في المنظومة الواعية التي تسيِّر الشركة، تلك المنظومة القائمة أساسا على الوعي الجمعي لمديري الشركة وموظفيها.  

أيُّ استثمار مجد نلوح به، وأيُّ جدوى نتغنى بها، ونحن لا زلنا مكبلين ومقيدين بمجرد عبارة لا تتعدى بضع كلمات، أقحمت سفها وبدون أي مبرر، في قانون تأسيس الشركة، وهي العبارة التي نصت على أن مقر الشركة هو مدينة صناعة الفخار غريان، ومن بعد ذلك وول ستريت الهيرة.

وإزاء هذا الوضع المتأزم المستوجب للعلاج الجريء، وهو إسكان الشركة مكانها الطبيعي الملائم لها، أجريت العديد من محاولات الرجوع، إلا أنها، ولأسباب لا يعرفها أحد، باءت جميعها بالفشل، واصطدمت بتلك العبارة البائسة التي تضمنها قانون الشركة الأساسي المعدل.

وفي محاولة يائسة لستر عورة متخذي القرار السفهاء الأغرار، من سياسيين وإداريين الذين ارتكبوا جريمة نقل مقر الشركة، تفتق ذهن أحدهم بفكرة ظاهرها فيه الجدوى، وباطنها طافح بالبلاهة والمكر والغباء، متخذا من المنطقة الحرجة جدا الواقعة بين الحلال والحرام مكانا لفكرته الصحراوية الجافة، والتي اتخذت من بيداء الهيرة مكانا لمواراة سوءة أولئك المدراء والسياسيين العابثين.

قضت تلك الفكرة الآثمة المشئومة بتشييد بناء كبير، وبتكلفة مليونية، وذلك على الأمتار الأخيرة لحمى مدينة غريان، هناك عند قدم الجبل في الهيرة، حيث درجة الحرارة الاستثنائية عالميا، وحيث لا حجر ولا شجر ولا كائن من بشر، وما من سبب وجيه وراء هذا الإجراء العقيم سوى الخجل العذري لأولئك المدراء الجفاة الشداد، وعجزهم على تغيير نص ظالم تضمنه قانون تأسيس الشركة !!!!

لم يتجرأ أي من المدراء العمالقة الذين تعاقبوا على إدارة الشركة على المبادرة ورفع أصواتهم بعدم جدوى مقر الشركة، واكتفوا بمجرد در الرماد في العيون، بتشكيلهم من حين لآخر لجنة رفع ملام، لا يتعدى دورها مجرد رفع توصية خجولة بضرورة نقل المقر، ولا شيء غير ذلك.


قانون تأسيس الشركة ليس كتابا سماويا حتى نحل بموجبه إهدار وقت الشركة الثمين، ووقت مائتي موظف، وكذا إتلاف سيارات الشركة وسيارات موظفيها، بل وتعدى الأمر إلى ما هو أبشع من ذلك، إلى تعريض أرواح هؤلاء الموظفين لحوادث المرور القاتلة التي فتكت بالكثير، في رحلة المائتي كيلو متر اليومية المستمرة طوال العام، وعلى مدى السنين.    

لابد لنا، ونحن نلج مرحلة جديدة من تاريخنا قوامها الحرية والشفافية، ونفتح قلوبنا وحدودنا للعالم الواسع، أن ننظر إلى أوضاع مؤسساتنا وشركاتنا، والتي هي وحدها من تحدِّث عنا وتقدمنا للعالم الخارجي الذي نحتاج إليه في إبرام صفقة، وعقد معاهدة، أو إقامة تحالف، أو إنشاء روابط التعاون التي تبرم في ردهات النادي الدولي الكبير، ذلك النادي الذي لا يمكن لنا أن نحصل على مؤهل إحراز عضويته، والظفر بمقعد بارز فيه بدون إصلاح مؤسساتنا وشركاتنا والنهوض بها.

لا يمكن لنا اقتحام تلك النوادي الدولية وإحراز عضويتها، ونحن نقف مترددين، وأيدينا مرتعشة أمام عبارة واهية، احتواها قانون تأسيس الشركة، وهي عبارة يوقن الجميع ببطلانها، وعدم تمشيها مع أبسط قواعد الجدوى، وفنون إدارة استثمار الأصول.


ترى هل تفلح المحاولات المشكورة التي يقوم بها موظفو الشركة هذه الأيام في إقناع الإدارة الحالية في تطبيق أبسط قواعد الجدوى، وقيامها صراحة بالاعتذار عن أخطاء السابقين من مدرائها، والإقلاع عن سياسة النفاق الإداري التي أدمنتها الإدارات السابقة، والمسارعة في إزالة وصمة العار التي اقترفتها تلك الإدارة المشئومة التي اقترفت ذات يوم من أيام الدكتاتورية السوداء، وبدون مبرر يذكر، جريمة ارتكاب نقل مقر الشركة، وذلك قبل خمسة عشر عاما مضى.

ولمن لا يعلم فإن شركة الاستثمارات الخارجية كانت تقتسم البرج رقم 2 بمجمع ذات العماد، مع المصرف الخارجي، والذي شمله نفس القرار الدكتاتوري القاضي بنقل مقرات الشركات من طرابلس، غير أن ثقل عقل من كان يدير المصرف الخارجي حال دون نقل المصرف، أما شركة الاستثمارات الخارجية فقد سابق مديرها الخفيف الزمن كي يطير بها إلى غريان إذعانا لأوامر أسياده السفهاء! 

محمد الشيباني







الاثنين، سبتمبر 19، 2011

العنف الليبي



العنف الليبي؛ وليد العوز الثقافي وشح الثقة بالنفس، وكلاهما حصاد الاستبداد

يصنف علماء النفس العنف ضمن قائمة الأمراض النفسية. ولمرض العنف، كغيره من الأمراض، درجات ورتب، يتدرج فيها من كونه مجرد علة بيولوجية تستوجب العلاج الدوائي وأحيانا التدخل الجراحي، إلى علة ثقافية، وهي الأكثر شيوعا وخطرا، والتي لا يمكن علاجها إلا عن طريق إعادة تأهيل المريض ثقافيا، ونزع إبرة انفجار اللغم المتربص داخله.

الشكر لكاميرا النقال التي استطاعت أن تنقل لنا، وبدون أي رتوش، حالات انفجار الألغام الثقافية التي يخبئها الكثير من الليبيين بين تلافيف أدمغتهم، والتي انفجر الكثير منها في الحرب الأخيرة بين الإخوة الأعداء، وبقوة تدميرية أكثر مما كنا نحسب ونتصور.

لم أتابع الكثير من حالات انفجار ألغام العنف الليبي في ساحة الحرب الأخيرة، ولكن ما شاهدته وشاهده الكثيرون غيري من حالة تعذيب الأسرى وقتلهم من أمثال؛ أحمد الغرياني، وجهاد عسكر، وغيرهما كثير، عليهم رحمة الله. وكذا ما رأيناه من جثت محترقة، وقتل الناس صبراً، وما تواتر ذكره عن حالات الاغتصاب، وغير ذلك كثير. كل ذلك وغيره جعلني أقف لأسترجع أشياء كثيرة في ذاكرتي عن العنف الليبي وألغامه التي كنت أشم دخانها، وأرى بعض انفجاراتها  هنا وهناك في شوارعنا ومياديننا، ونحن نعيش حالة السلم لا الحرب.   

يكاد يجمع الكثير على أن المواطن الليبي العادي به شحنة من العدوانية والعنف، تفوق مثيلاتها لدى المواطنين العاديين من شعوب أخرى. وعند محاولة إيجاد تفسير لفرط هذه الشحنة، تنجذب أذهاننا بسرعة نحو ظاهرة العوز الثقافي.

هل تضاؤل الثقة بالنفس، هي حالة عوز ثقافي، وأحد بواعث العنف؟

نعم.

كيف؟

سأجيبك، ولكنك ستصبر علي قليلا. ما رأيك؟

أصبر.

دفعني ذات مرة فضولي المتهور إلى الاقتراب من فوهة بركان أحد الغاضبين، بهدف الوصول إلى أقصى مدى يمكن الوصول إليه في أعماق بركان غضب بعض الناس، وكم كانت دهشتي عظيمة لما رأيته من فوارق بين غضب مواطني الليبيين، وغضبة الآخرين، كالمصريين مثلا.

هل جربت ذلك؟


نعم.

أثرت فضولي أخبرني.

ذات يوم صيفي، وفي شوارع القاهرة المزدحمة، جاورت سيارة الأجرة التي كنت أستقلها، سيارة نصف نقل يقودها رجل مصري ينفث بركان غضبه حمما من كلمات، وشرارات من نظرات، وكل ما احتواه صوت منبه سيارته المفزع من أصوات مرعبات. كان إلى جانبه راكبان هما الهدف الظاهر لقذائف غضبه، ولكن غضب الرجل كان عارما، حتى أنه جاوز كابينة السيارة التي يقودها، ليغطي الشارع الواسع وما حواه.

قررت أن أمارس فضولي الخطير، وربما القاتل، وكان أبرز ما شد انتباهي في وجه الرجل الغاضب عيناه الخضراوان اللتان كاد الغضب أن يقتلعهما من قوقعتيهما ، وقلت في نفسي سأبدأ منهما، وليكن ما يكون.

انتهزت فرصة اقترابي من الرجل إلى أدنى مسافة ممكنة، وقلت له"عِينيك حلوة"، وباللهجة المصرية التي لا أتقنها.

أدرك الرجل الغاضب أن مخاطبه ليس من أهل البلد، كما أنه رجل بسيط يركب سيارة أجرة بسيطة، وهو بذلك ليس ممن تقبل هفواتهم لطول هاماتهم وعظم درجاتهم، الأمر الذي وفر له الغطاء الكافي للرد على ما أبديت من سماجة. غير أن الرجل، وعلى غير المتوقع، انشرحت أساريره، وانقلب غيظه غبطة وسرورا، وكأنني قذفته بكيس من نقود، أو باقة من ورود، وقال والبشر والرضا ينيران وجهه المغبر: "إنت أحلى"، ثم خمد ذلك البركان، وضحك كل من كان في المكان، ولدرجة أشعرتني بالفخر، بل وحسبت نفسي حينها ممن لهم مستقبل في فن صناعة النكث، وتجارة الكوميديا وبيع الضحك.

التفت إلي مواطني الليبي الذي كان معي في السيارة، قائلا: لو قلتها لابن عمك الليبي، وهو على درجة الغضب التي عليها هذا المصري، لكان حالك غير هذا، يا هذا!

أخرجني صاحبي، بهذا الإنذار المرعب، من نشوة الشعور بالنصر والفخر، إلى حالة الشعور بالإحباط والتذمر والقهر، وقلت له: هل يفعل بي سائق نصف النقل الليبي الغاضب شيئا غير هذا؟

فردَّ صاحبي بكل ثقة: إن ألطف ما يمكن أن تخرج به من موقف كهذا، هو نعتك  بالشذوذ الجنسي!

يا الله! سيكون ذلك مفزعا، بل ومدعاة لردة فعل معاكسة مني، قد تتطور وتتحول من مشادة كلامية بسيطة إلى شجار بالأيدي، وربما بالعصي والسكاكين، وحتى بالكلاشن التي حلت الآن محل الهراوات المصاحبة لكل سائق سيارة ليبي.

ليس هناك مجالا بأن تتغزل في عيني ليبي لا تعرفه.

لماذا؟

لأن الثقة بالنفس لديه بلغت من القصور حدا، جعله لا يفسر إعجاب الناس بعينيه، سوى رغبتهم السيئة وطمعهم الدنيء فيه.

هل الاستبداد والتسلط الذي عانى منه الليبيون العقود الطوال وراء انعدام الثقة في نفوسهم المفضي إلى ردات الفعل العنيفة؟

أجل.

كيف؟

عاش الفرد الليبي خلال العقود الأربعة المنصرمة ضمن دوائر الاستبداد والتسلط التي حرص المستبدون على طلائها بألوان زاهية، من مثل؛ التدريب العسكري، والحكم الشعبي، والتنظيم الاقتصادي، والانضباط الأمني، وهي جميعها ليست سوى قيود وأغلال وكوابيس، تلاحق المواطن الليبي في كل مكان، وتنتزع منه أمنه الشخصي والاجتماعي، وأخيرا ثقته بنفسه، بل وثقته في كل شيء حوله.

لم يطرق باب بيتي أحد، إلا واعترتني الشكوك فيه، وفي دوافع زيارته. وبرغم قلة عدد الثواني التي تفصل بين صعقة الجرس، ومعرفة اسم الطارق، إلا أنها كانت بطول السنين وثقلها، وكانت  تصعد بدقات قلبي إلى الضعف، وبسببها تضطرب مؤشراتي الحيوية جميعها، وذلك لما تراكم في ذاكرتي من قصص مفزعة،  يبدأ فصلها الأول بنغمة جرس، وينسدل ستارها المعتم الكثيف على ظلمة رمس!

إنني أعذر نفسي، وأعذر كل من احتواه سجن الدكتاتور القذافي الكبير، حتى قضى فيه كل عمره أو جله، عن كل توجس يبديه تجاه نظرات الغرباء وكلماتهم وحركاتهم، ذلك أن الليبي المسكين كان يعيش في وطنه غريبا ومتهما ومطاردا، وهو ما يهبط بالثقة في النفس إلى درجة الصفر أو أدنى.
أفلا يحق لهذا أن يكون عنيفا؟!

محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com 

الثلاثاء، سبتمبر 13، 2011

البيان الأخير



صعلوك جهنم أزحناه، ولكننا لن ننتصر عليه ، حتى نقتلع ما غرسه، ونهزم من والاه.

صعلوك جهنم، القذافي، شيطان وأحمق، ذلك أنه يضع إحدى رجليه في أقصى مدى المكر والخديعة، ويضع رجله الأخرى في قريته البدوية البسيطة، قرية جهنم، حيث يمارس ذكاءه الفطري الموغل في البساطة والسذاجة.

وعلى امتداد المسافة بين ذكائه الفطري وخبثه، وبغلاف زمني زاد عن أربعة عقود، وغلاف نقدي ربما لامس تريليون دولار، أركض القذافي الليبيين حتى أرهقهم وأعياهم، وتأكد لديه، وبما لا يدعو مجالا لأي شك، بأن الليبيين المرهقين سوف لن يقدروا على فعل أي شيء يرهق العقيد العميد، صاحب البأس الشديد، والمجد التليد.

الأقدار نوتة سيمفونية الأحداث، وكل ما في الكون من موجودات ما هي إلا أوتار تهتز وترن، و حناجر تئز وتئن، وذلك في سباق محموم من أجل تحويل أحرف نوتة الأقدار من مجرد حروف مسطورة مستورة، إلى أحداث قائمة بارزة منظورة.

في مقال سابق عنوانه "الخروج على النص" حاولت أن أرصد، وبذهول بالغ، تسلل أصابع القدر من وراء حجب الغيب، لتحدث تغييرات جسيمة في الألفاظ والجمل الموسيقية المستقرة مدى الدهور في قلب نوتة الأقدار النمطية المعروفة، وهو ما أدي إلى تغيير خطير في نتائج الأحداث، تزلزلت بفعله الحصون الشديدة، والممالك العتيدة.   

نجم عن ذلك حقيقتان مؤكدتان؛ أولاهما أنه ليس بشطارتنا ولا شطارة الآخرين، بروز ذلك الانبعاث المفاجئ لاخضرار الربيع العربي، من وسط كتل اصفرار الموت الذي غشانا به خريفنا الدائم المقيم. وكأنما الأقدار تريد أن تعلمنا درسا بليغا، من نادر ما تقدمه من دروس، ألا وهو الظهور السافر لمعاولها العملاقة، وقيامها، وبوتيرة سريعة جدا، بدك قلاع طواغيت العرب الثلاثة؛ مبارك والقذافي وبن علي.

تلك حقيقة يجب أن نتوقف عندها ونعيشها، ولو تسببت في حرماننا من بعض نشوتنا بالشعور بالانتصار.

أما الحقيقة الثانية التي سوف تذهب ببقية نشوتنا، بل ربما جرعتنا بدل النشوة المرارة، فهي تلك الحقيقة الصادمة، حقيقة انتصار القذافي علينا!

 أجل. إنني أريد أن آخذكم، بعد إذنكم، من مكان الاحتفال ونشوة الانتصار، إلى حيث ساحة المعركة التي فرضها علينا هذا الأحمق دونما سبب وجيه يذكر، وذلك للنظر إلى هذه الساحة بعد انقشاع  ما غشاها من غبار.

لماذا أفعل ذلك؟

أفعل ذلك من أجل مواجهة أنفسنا، والوقوف على حقيقة خسائرنا، ومن تم رفع الدعوى القانونية اللازمة لضمان استرداد ما يمكن استرداده من حق معنوي ومادي.

أبرز ما شد انتباهي ومزق قلبي في ساحة المعركة حيث يتواجد حطامنا، هو شواهد أكثر من ستين ألف ليبي بين قتيل ومفقود، تقتسم البيوت الليبية كلها، وبدون استثناء، مرارة الموتة الشنيعة لمن قتل، والغصة الدائمة لمن فقد. وهي مرارات وغصص لم يسبق لنا أن تجرعنا مثلها منذ احتلال إيطاليا لبلدنا ليبيا. أما عن الخسائر المادية، فإن حربا ضروسا كالتي خضنا، لابد أن تنجم عنها جبال من الخسائر، تزيد خاطرنا انكسارا، وفرحنا تواريا وانحسارا.


ذلك الذي ذكرت هو فقط ما يمكن عده وإحصاؤه من خسائر، أما الخسائر التي لا يمكن عدها ولا تقييمها، فهي تلك الخسائر الجسيمة الناجمة عن احتراب إخوان الوطن والدين، وما تتركه من شروخ وندوب في الأفئدة والوجدانات، قد تفوق بكثير كل ما ذكرنا من تبعات وذيول للحرب التي فرضها علينا الطاغية وكتائبه الأثيمة.

لا يمكن أن يعدل مجرد سقوط القذافي وإزاحته كل تلك الخسارات، ماديها ومعنويها، وإن مجرد اكتفائنا بسقوط القذافي، هو خسارة أخرى، تضاف إلى سلسلة الخسائر التي أحصينا.

إن التعويض الذي يجبر كسرنا، يجب أن يتضمن على الأقل ما يلي:

1ــ قطع واستئصال كل ما غرسه القذافي في أذهان الكثير منا من ترهات. ولا يتأتى ذلك إلا باستيعابنا جميعا لفداحة وعدم شرعية كل ما فعله القذافي، بدءا من انقلابه المشئوم، ومرورا باختطافه لنا لأزيد من أربعة عقود،  وانتهاء بذبح عشرات الألوف منا دونما ذنب يذكر.

2ــ استئصال التصاقات الورم القذافي المادية باستخدام مشرط الفرز الإيجابي. وكذا استئصال الالتصاقات المعنوية، وهي أشد خطرا، بمشرط المواجهة الصريحة لكل من ركن إلى القذافي وروج له ولأفكاره، وتحصل في مقابل ذلك على امتيازات ومنافع مادية أو معنوية، وإجباره على التكفير عن خطاياه بالتنازل عن زقوم كل مكسب جناه من مناصرة الطغيان. وفي جميع الأحوال يتولى القضاء العادل محاسبة كل من قام عليه الدليل في سفك دم، أو هتك عرض، أو تقييد حرية، أو ممارسة تعذيب.

3ــ وكما صنعنا من أعمارنا ومقدراتنا فرعون استخف بنا فأطعناه، وجعلنا مجرد بيادق تحركنا خيوط تهويماته وأطياف هواه، يجب علينا، بعد أن تخلصنا منه، أن نصنع الشخصية المخالفة تماما لشخصية ذلك الطاغية المستبد، والتي سوف لن تكون إلا شخصية قيادية فذة، تتخذ من علوم المتحضرين، وتجارب الناجحين منهجا وطريقا لإنقاذنا السريع من وهدة تخلفنا المريع.   

إن عِظم ظلم القذافي، وطول فترة إمهاله، هو ومن حوله، أذهبا كل شك في تأصل الإجرام والعدوانية في نفسية القذافي، كما أذهبا اي ملمح من ملامح البراءة في نفوس مناصريه. وأيد ذلك وأكده طول فترة الإنذار الأخير، والتي بلغت ستة أشهر من المواجهة المباشرة بين دكتاتور وشعبه،  وهو ما أزال كل عذر لكل من وقف خلال هذه الفترة، متمنيا هزيمة الشعب، وانتصار الدكتاتور.

إن القابلية للاستعباد، بمقابل وبدونه، هي أشد ما أصابنا من علل خلال عصر القذافي، وهي علل نشأت بسببين؛ أولهما العوز الثقافي لبسطائنا، وثانيهما العوز الحركي في ثقافة مثقفينا. ولا يمكن البرء من علة القابلية للاستبداد بمجرد زوال السبب الرئيس، وهو القذافي وسياسته، وإنما يتحقق البرء الكامل عندما يتحمل كل فرد منا نصيبه من المسئولية، ويستلم حقه دونما جميل أو تفضل من أحد.

تحمل المسئولية بثقة، واستلام الحق بكرامة، يعنيان، وبكل بساطة، إلغاء وشطب ذلك الكادر المتورم من الأزلام وذوي الحظوة والمريدين، وكذا قوافل أولئك المستعبدين بدون مقابل، وما أكثرهم!

قبل أن يتولى مهاتير محمد مهمته التاريخية في بعث ماليزيا، ذات الغالبية المالاوية، صعق أذهان بني جنسه المالاويين بوصفه لهم بأنهم كسالى، فعوقب في بادئ الأمر على جرأته وربما وقاحته، ثم ما لبثت أن تحولت تلك الجرأة إلى بلسم، سكبه الجراح المبدع، مهاتير، في أعماق الجرح الماليزي، والذي وبمجرد التئامه تعافى النمر الأسيوي من علله كلها، ودخل مضمار أقرانه، النمور الأسيوية العملاقة.

كانت محتويات هذا البلسم مجموعة من الخطوات قام بها هذا الطبيب الماليزي البارع على الجسم الماليزي المطاوع والمستجيب لكل أمر ونصيحة، أطلقها طبيبه الذي وثق به فأخرجه خلال عقدين من الزمان من فقر وتخلف القرون.

أعود وأطالب بضرورة تكثيف الجهود في سبيل البحث عن مهاتير ليبيا، الذي يعوضنا نيله عن خسارات وويلات فترة جثوم الدكتاتور على صدورنا، كما يصنع هذا المهاتير من أحلام الثوار المنتصرين حقائق واقعة، وإنجازات ملموسة، تجعل من دخولهم ساحة معركة البناء امتدادا مباشرا للمعركة التي قادوها باقتدار في ساحة تحرير الوطن، تلك الساحة التي سوف يعز عليهم فراقها إلا إلى ساحة أحسن وأمتع منها، وليس هناك ألذ وأمتع من ساحة بناء الوطن بعد استرداده من خاطفيه.

محمد عبد الله الشيباني
Aa10zz100@yahoo.com

الثلاثاء، سبتمبر 06، 2011

إلى كل الليبيين



صنعنا أعظم دكتاتور، فهل نستطيع صنع ولو مجرد "مُهَيتير"؟


لمن لا يريد قراءة كل المقال، تكفيه النقاط المختصرة التالية:

ــ الدكتاتور الذي صنعناه، نعرفه جميعنا.

ــ مُهيتير تصغير اسم مهاتير محمد، صانع ماليزيا الحديثة المعروف. وتعمدت تصغير هذا الاسم الأسطورة، من باب التيسير وتهوين المهمة.
ــ أدعو إلى تكوين جسم سياسي صلب لدولتنا المرجوة، بحيث يحضن ويحفظ أجسام الدولة الأصغر، والتي يأتي في مقدمتها الجسم الاقتصادي.
ــ أدعو إلى فتح باب التنافس في صنع مهاتير، أو حتى مُهيتير ليبيا.
ــ لا حرج في أن يتقدم إلى هذا المنصب كل من يرى نفسه أهلا لذلك، وذلك توسيعا لمساحة المفاضلة والاختيار.
ــ يعزز المتقدم لشغل هذا المنصب طلب ترشحه بمقترح يتضمن خطة إنقاذ ليبيا وتعويضها عن فترة الاختطاف الطويلة، على أن يكون جانب التطوير الاقتصادي هو محور هذه الخطة.

ــ تطرح مجموعة المقترحات المقدمة على الاستفتاء الحر الرشيد، ويُعمَّد المقترح الفائز بخواطرنا المكسورة وأحلامنا الموءودة وآمالنا المستخف بها السنين الطوال، وأخيرا بدمنا المراق في كل مكان.    
ــ يمنح صاحب المشروع الفائز الوقت الذي يريد، على أن يقسم مدى المشروع إلى مراحل، في نهاية كل منها محطة للمراجعة والترشيد.
ــ يسمى المشروع الفائز بمشروع بناء ليبيا، كما يلقب صاحب هذا المشروع بخادم ليبيا، ويكون على استعداد لتقديم استقالته من منصبه عند تمام مهمته، تماما كما فعل مهاتير ماليزيا، حيث تقاعد عندما أتم مهمته.
ــ من الممكن قيام وتضامن أكثر من شخص على إعداد وتبني هذا المشروع.
ــ نظرا لأهمية هذا العمل وخطورته، فقد يكون من المجدي تغليفه بغطاء دستوري يؤصل له ويدعمه.                                                                                                 
                                 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تلك هي الومضات التي قدحت زناد فكري، وأسالت مداد قلمي فأطنبت. ولمن يروق له الإطناب، وتفصيل الخطاب، فليتفضل مشكورا، وليتبعني حتى نهاية هذا السرداب:


الشعوب تصنع جلاديها، ونحن من صنع الجلاد القذافي. ولمن لا يعلم من النشء صغير السن، فقد خرج الكثير من الليبيين في الأيام الأولى من شهر سبتمبر 69 خروجا جماعيا مخجلا، تأييدا لرجل مجهول الهوية، استولى على الإذاعة، وأطلق منها بيانا بدون توقيع، سرق به الجمل وما حمل.

في سويعات معدودة، وبضربة واحدة كما قال بيان الملازم النكرة، تم اختطاف بلد بكامله، وحول مسار القافلة كلها جمل أجرب شارد، وقلب نشيد الجموع صوت واحد مبحوح نشاز.


أسباب كثيرة كانت وراء استلاب العقل الجمعي لليبيين، ودفع جموعهم إلى حيث أشار أصبع القرصان، في تلك الأيام السوداء وما تلاها من أيام، ، ولكن أهم هذه الأسباب ما كان منها كامنا في العقل الليبي نفسه، ومنطلقا منه.


قبل أربعين عاما كانت الأمية بأنواعها المختلفة معششة في أذهان الليبيين، وحتى من حاول منهم، وهم قلة، ملء فراغ مستوعباته الفكرية الخاوية، لم يجد أمامه من غذاء فكري، سوى وجبات فقيرة العناصر، فاقدة الصلاحية، ومهربة من وراء الحدود، بل إن بعض هذه الوجبات كان سما دُسَّ في عسل.


لم تغرب شمس اليوم الأول للانقلاب حتى فوجئ الملازم القذافي بأن سبابته تحرك آلاف البشر، واكتشف أن لعبته الساذجة وحيلته الرخيصة، قد انطلت على الكثيرين، ووجدت في أدغال العقول الليبية الخاوية بيئتها المثلى، فاستقرت فيها وسيطرت عليها.


لم يدفع صعلوك جهنم مقابل إغراء الجماهير والاستحواذ عليهم شيئا يذكر، ولذلك لم يجد نفسه ملزما، وهو يمارس أبشع أنواع السخرة عليهم، ببذل أي مجهود، أو الالتزام والإيفاء بأي وعود، بل لم يكن لكل تلك الجموع إرادة تحسب، أو صوتا يرهب.


أدرك القرصان منذ اليوم الأول أنه انتصر على خصمه بالضربة الفنية القاضية، لا لجدارة لديه، ولكن لضعف وهوان وغفلة مفرطة لدى مواطنيه، وتأكد من ذلك بعديد التجارب التي أجراها، والتي أكدت جميعها ليونة ومطاوعة كل شيء حوله، فأخذ يعبث بنا كما يشاء، مما أدى إلى انخراط القرصان في نشوة عارمة امتدت أربعة عقود وزيادة.


سكرة ونشوة القرصان العميقة هذه، هي التي تفسر ردة فعله الشرسة عندما أفزعه واقتلعه من سكرته ذلك الصوت المزلزل لعطسة رجوع الروح للعملاق النائم، تلك الروح التي أيقظتها من مرقدها الطويل حرارة شرارة ثورة فبراير المباركة.


أجل. ها قد استيقظ المارد الليبي وانتزع بجدارة كأس الانتصار بالضربات الفنية القاتلة، وعلى كل الجبهات؛ سياسيها، واجتماعيها، وعسكريها، وحتى فكريها، وأدبيها، وإعلاميها. وسقطت جثة القرصان المثخنة بضربات قبضات أيدي الشباب الغاضبين، والذين هبوا للثأر ممن جعل موروث الأبناء من آبائهم، ثأرا وغضبا متأججاـ انصب على من غرر بالآباء واستخف بالأبناء.


أيها الشباب: إن آباءكم قد ساهموا، وهم في غفلة من أمرهم، في صناعة الطاغية الذي كلفكم إسقاطه دماءكم، وهو ثمن عجز آباؤكم، لسبب أو لآخر عن دفعه، وإنكم بهذا الثمن الغالي استحققتم شرف إسقاط أشرس وأبشع دكتاتور، وهو شرف رفيع ومكانة سامية تؤهلكم للحصول على الجائزة.


إن أثمن جائزة تليق بعملكم الجبار هذا، هو قدرتكم مجتمعين على صناعة المفتاح الذهبي الذي به تفتحون أبواب دولة ليبيا الحديثة، وهو مفتاح مصنوع من سبيكة متميزة قوامها التخطيط الاستراتيجي المحكم.  


الزعيم الماليزي المعروف مهاتير محمد قضى في الحكم نصف المدة التي قضاها طاغية ليبيا القذافي، فجعل من طوابير فقراء ماليزيا نمورا تسابق الأسود، ثم أحيل للمعاش براتب تقاعدي. قائدنا، صعلوك جهنم، وبعد أربعين عاما من حكمنا أوقف ثروة ليبيا عليه وعلى أولاده، وجعل من نفسه ملكا للملوك، وسحق إرادتنا حتى مسخنا جرذانا، وأمر كلابه بملاحقتنا والفتك بنا، بل وأصدر أوامره بمحونا من الخريطة الحيوانية لكوكب الأرض.    


إنكم بانتصاركم على هذا الدكتاتور البشع أثبتم له ولغيره أنكم نمور، وتستحقون الخروج من حظيرة الراعي وخيمته المتخلفة بكل ملامحها البشعة التي صبغ بها مرحلة زمنية من تاريخ ليبيا ليست بالقصيرة.


إذا كان تشخيص المرض نصف العلاج، كما يقولون، فها قد شخصنا علتنا، وتأكدنا من أن مصيبتنا كانت في حاكم مستبد أخرق سفيه نحن صنعناه، ونحن اقتلعناه. وسوف لن نبرأ من دائنا المزمن الذي عانينا منه طويلا إلا باختيار ذلك الدواء القادر على استئصال علة الاستبداد والتسلط والسفه من جذورها، وقيامنا باختيار من يدبر شئون دولتنا، ويضمن لنا ليس مجرد البرء من دائنا، بل يقوم بتعويضنا عن فترة سقمنا الطويلة المرهقة.


أجل إن المؤسسات الديمقراطية هي أول ما تقع عليه العين من أدوية في رفوف صيدلية مضادات التسلط والاستبداد، بيد أن هذه المؤسسات ما لم يربط لبناتها ذلك الرباط القوي من سياسات ذكية محكمة، قوامها العلم والتجربة، ورعاتها وعرابوها أصحاب القدح المعلى في مجال التطوير والتخطيط الاستراتيجي، وما أكثرهم في بلدنا ليبيا.


لو لم تظن بي الظنون، لأشرت إلى أكثر من خبير تخطيط استراتيجي دولي كبير، رأيناهم طوال السنين الماضية يتحرقون شوقا إلى ذلك اليوم الذي تطلق فيه أيديهم، ويتمكنون من إبداع خطط تنمية وتطوير، بل وسمعناهم يقسمون بأغلظ الأيمان على قدرة هذه الخطط على وضع عجلات القطار الليبي الغائصة في أوحال التخلف وسوء الإدارة على سكة الصعود والانطلاق والتألق. إنهم، وكما يزعمون، يملكون المفتاح الذهبي الذي عنه نبحث.


وبغض النظر عن هذا أو ذاك، فإنني أريد أن أقول، إننا يجب أن نبحث عن مهاتير ليبيا الذي ضاع من ليبيا خلال مرحلة طفولتها وصباها، وأن نقوم باختيار العريس اللائق لدولتنا الشابة المتألقة الجميلة والتي صنعناها بأيدينا، ونحن الأوصياء عليها وولاة أمرها، ونحن من يملك حق زفها لمن هو كفؤ لها.


أرى أن يكون مهر هذه العروس الحسناء خطة تنمية وتطوير عشرينية، محكمة البناء، مضمونة النتائج، مستجيبة في كل محطاتها المرحلية، وبأولويات ذكية، لكل تطلعات هذا الشعب الذي سفه أحلامه وتطلعاته ذلك القرصان المغتصب.


لا نريد لهذا العريس هوى غير هوى ليبيا، ولا نريد له قلبا يتوزعه حب دستة من الأبناء المترفين الأغرار، أو يسكنه ذلك العشق الأحمق للقبيلة المتخلفة، أو تلعب برأسه خمر العصبية وحب الذات المنكرة التي كانت تنز نزا من هبل ليبيا الهالك.


نريد من يقود هذه المرحلة أن يكون راهبا متعبدا في محراب أمنا ليبيا، كما نريد أن يكون محرابه زجاجي الجدران والحوائط، مفتوح السقف والأبواب، خال من كل طقوس الدروشة والدجل والشعوذة وأصناف الوصاية المقيتة.


مهاتير محمد من أسرة مالاوية فقيرة، ودفعه الفقر إلى أن يكون بائعا جوالا يبيع الموز. درس الطب وامتهن الجراحة، وكان يقدم خدمته للمحتاجين بدون مقابل.


ألف مهاتير محمد كتابا بعنوان مستقبل ماليزيا الاقتصادي، كما ألف كتابا آخر أسماه معضلة الملايو، اتهم فيه شعبه شعب الملايو بالكسل، مما ألب عليه الكثير، وتم منع الكتاب من النشر، إلا أنه أعيد نشر الكتاب عندما تولى مهاتير رئاسة الوزراء في عام 1981.


حول مهاتير محمد  دولة ماليزيا من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية، مثل القصدير والمطاط، إلي دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي،
 
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% إلي 5% فقط، كما ارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من أكثر من ألف دولار بقليل في بداية السبعينيات، إلي ما يقارب التسعة آلاف دولار عندما تقاعد صانع النمر الماليزي  في عام 2002 ، كما انخفضت نسبة البطالة إلي 3%، وقد كادت ذات يوم أن تشل أيدي نصف سكان ماليزيا.


لم يصل مهاتير، ومن وراءه بلده ماليزيا، إلى هذا المكان المرموق، إلا بعد أن نجح الماليزيون في مواجهة أنفسهم، وأقدموا بكل شجاعة على تقييم أخطائهم، والتي اقتلعوها وبكل قوة، وغرسوا مكانها قيما مجربة مثلى، استعاروها وبكل تواضع من جيرانهم الناجحين، والذين تأتي في مقدمتهم دولة اليابان. وكذا فعلت الصين العظمى، عندما تواضعت، واستعارت تجربة دولة قزما كدولة سنغافورة.

كل تلك الانجازات وقع عليها بائع موز جوال، اسمه مهاتير، وليس ملك ملوك وصانع جماهيريات كاذب محتال، ولشعبه قامعٌ قتّال.

محمد عبد الله الشيباني

Aa10zz100@yahoo.com          

السبت، سبتمبر 03، 2011

الخروج على النص، وملحمة أكبر دكتاتور، وأصغر شعب




يوما بعد يوم تتكشف لنا فصول الملحمة المأساوية العالمية المعروفة باسم  "أكبر دكتاتور، وأصغر شعب" . وهي ملحمة تراجيدية من تأليف وإخراج معمر القذافي، والذي كان يلقننا، نحن الليبيين، وربما غيرنا، حوار هذه الملحمة المخزية، ويومئ إلينا بمشاهدها من وراء حجاب كثيف من أجهزته وكتائبه الأمنية.

فصل هذه الملحمة الأخير خرج فيه أبطال الملحمة عن النص، كما أن مؤلف ومخرج الملحمة نفسه خانته ذاكرته، وقبل أن يصل إلى العقدة الدرامية الأخيرة جفَّ مداد قلمه، وتحرك قلم القدر ليكتب نهاية الظالمين ويفضحهم، وينصف المظلومين من ظالمهم.  

صعلوك جهنم، القذافي، الذي كان يتعثر في خطاه عندما يسير في شوارع طرابلس نهارا، وذلك لما يعانيه من عقد نفسية وانهزام داخلي وكبر كاذب، وحقد على كل ذي نعمة. وعند حلول الليل يأوي إلى دكان في أحد أزقة الحارة ليبيت فيه، ضيفا على مالك هذا الدكان، الطرابلسي.

صعلوك جهنم أصبح، وعلى حين غفلة من أهل طرابلس، حاكم طرابلس وسيدها الأوحد.

لابد أن هذا الغازي الدخيل فعل ما فعل، واختطف المدينة وأهلها، باستخدام سلاح فتاك كان يخفيه وراء بساطته وبدائيته، ولم يكن لأهل طرابلس علما ولا قبلا بسلاح هذا المتسلل الخبيث.

ــ ترى ما هو سلاح هذا الصعلوك، وأين كان يخفيه، وهو النحيل الهزيل الأمرد؟

ــ غالب الظن أنه لم يكن معه سلاح من الأسلحة التي نعرفها.

ــ إذن فأي سلاح استخدم؟

ــ استخدم ما لديه من مخزون وقاحة هائل، وكذا ما لدينا من مخزون سذاجة وجبن مخجل.

ــ وهل مخلوط وقاحة صعلوك، وجبن أهل مدينة وسذاجتهم، يمكن أن ينتج عنه هذا المركب الطاغوتي الذي بلغت مستويات عنفه وحقده حد حرق أجساد أهل المدينة الطيبين الذين فتحوا أبواب مدينتهم  لصعلوك جهنم وآووه دون التثبت من هويته؟

ــ هذا ما بات مؤكدا، وخاصة بعد اختفاء عشرات ألوف المخطتفين من أبناء المدينة، واكتشاف بعضهم وقد أحجمت النار التي ألقوا فيها عن حرق عظامهم، وتوقفها عن مواصلة مهمتها الخبيثة التي كلفها بها الطاغية، وأعلنت تمردها عليه، وذلك لعجزها عن مجاراة ما في صدر الدكتاتور الصعلوك من حقد جهنمي دفين!   

ــ حقا توقفت النار ولم تأكل أعظم أبناء المدينة الذي أخذوا على حين غرة ،وذلك رغم قابلية العظام البشرية المحاطة بالشحوم والمشبعة بالدهون للاحتراق!

ــ عجبا حتى النار المحرقة التي تأكل كل شيء تخرج عن النص وتتمرد على من أشعلها، ويستيقظ ما أودع الله فيها من حس، وتتوقف عن مجاراة مخلوق خلا من كل إحساس، أو بقية من ضمير.

ــ أجل، فبروز جماجم الشهداء من أتون الحريق، وركام الرماد  الأسود، وتلويحها باللون الأبيض، وذلك على غير ما نعرفه من تغليف سواد السخام لكل جسم حرقته نار، لهو دليل على خروج النار المحرقة عن النص.
ــ ربما من أجل إعلان النار عن التكفير عن ذنبها، وتحولها إلى شاهد إثبات ضد من ورطها في هذا الجرم الشنيع، حرق بني الإنسان الذي كرمه الله وسخر له كل شيء، حتى النار.
ــ بكل تأكيد.
ــ سأجاريك في تحليلك هذا تقديرا لرومانسيتك الجامحة، ولكن هل تعتقد أن تحول الرأي العام العالمي، وفي مقدمتهم رؤساء الدول من أوربية وغيرها، هو أيضا ضرب من ضروب الخروج عن النص؟

ــ أجل. إن تحول أصدقاء القذافي من مثل ساركوزي وبرلسكوني وغيرهم هو خروج جماعي مثير جدا عن نص رهن القذافي في سبيل تكريسه مستقبل ليبيا، ولم نسمع طيلة فترة ترديد هذا نصوص هذه الملحمة أي صوت نشاز من الجوقة المنافقة التي أظهرت للقذافي ما لم تكن تبطن، وذلك من أجل تحقيق مصالحها مع دكتاتور ليست له مصلحة سوى بقائه فوق رؤوس الليبيين.

ــ أصبتني بعدوى تحليلاتك الرومانسية، وبدأت ألمح في كل شيء خروج عن النص، فالظواهر والإحصائيات العلمية الثابتة خرجت هي الأخرى عن النص.

ــ كيف؟

ــ من المعلوم أن في كل رحلة جوية تقوم بها طائرة نسبة من الخطر، ويزيد معدل تحقق هذا الخطر بتعدد الطائرات وتكرار مرات صعودها وهبوطها، وكذا بعد منطقة ساحة المعركة وشدة استعارها نيرانها. وكل ذلك كان متوفرا في حملة الناتو على كتائب القذافي، ولكن لم يعلن عن تحقق أي من هذه الأخطار المتوقعة. أليس كذلك؟

ــ بلى، ففي آلاف الطلعات الجوية كانت نسبة تحقق الخطر صفر في المائة، وهو لعمري لخروج صارخ عن النص!   

ــ ما أجمل وأعظم ذلك الخروج المثير عن النص الذي مارسه وبإتقان ممثل القذافي في مجلس الأمن، شلقم، وقبله نائبه، الدباشي، وكذا سفير القذافي لدى واشنطن!

ــ أجل، فلم يحدث في تاريخ الدبلوماسية مثلما حدث في نيويورك في تلك العشية المشهودة من خروج جماعي عن كل النصوص!

ــ أعلن في ذلك اليوم الانقلاب على كل مألوف ومعهود.

سبحان الله الحكيم المعبود!

محمد الشيباني
http://libyanspring.blogspot.com


     

الاثنين، أغسطس 29، 2011

رسالة إرفاق



                       رسالة إرفاق قرار تعيين وزير

إلى من يهمه الأمر

الموضوع: مقترح رسالة إرفاق قرار تعيين لوظيفة عامة.

تمثَّلتُ حالة استلام أحدهم قرار تعيينه وزيرا في حكومة ثورة فبراير، وتقمصت شخصيته، وما إن فرغت من قراءة ديباجة القرار، وتأكدت من أنني قد أصبحت وزيرا في حكومة الجمهورية الليبية، حتى زاغ بصري، وثقل رأسي، وبدت الصحيفة التي في يدي على هيئة سجل عملاق بمساحة الوطن، انتصب في وسطه عداد زمني يسجل ويراكم الأيام الطوال، والأحداث الجسام لرحلة الاثنين وأربعين عاما الشداد العجاف، حتى إذا كان مساء يوم منتصف فبراير، تحامل ذلك الركام وصار إعصارا، وأخذ يقذف بأفواج الغاضبين إلى الشوارع والميادين، والتي ما لبثت أن تحولت، وفي لمح البصر، إلى ساحات رماية، أحاط بها سياج من سلاح فتاك، في أيدي جنود عتاة أجلاف، اتخذوا من الرؤوس الهشة، والقلوب والأكباد الرطبة هدفا مشتركا لحمم مدافعهم. وما إن أطلق راعي الرعية أمره بقتل رعيته، حتى انقسم الوطن الواحد إلى معسكرين متحاربين، معسكر يحارب من أجل أن يتحكم فرد، ومعسكر آخر يحارب من أجل أن يتحرر شعب. وما هي إلا لحظات حتى احمرَّ الإسفلت رغم اسوداده، واغبرَّ الأفق رغم صفائه وجلائه، وشقَّ الصراخ والدعاء عنان السماء.

أفقت من إغماءتي لأجد الورقة التي بين يدي، وقد تحول لونها الأبيض إلى لون أحمر قان، ما لبث أن سرى إلى كل أصابعي، وخضب كامل كفي. وإذا برائحة الدم والبارود تملأ المكان، وتتحول تلك الورقة النحيلة الخفيفة إلى جلمود صخر ثقيل بثقل دماء المغدورين، وصرخات المظلومين، وأنات المجروحين، ودموع اليتامى والثكالى الملوعين.


بحثت في الجوار عن بلسم أزيل به عن يدي أثر لهيب الدم، وأسكت به صدى الصرخات والأنات، فما وجدت غير مداد قلمي الذي تحولت قطراته المرتعشة المضطربة إلى كلمات متهالكة متلعثمة، صغت منها على عجل ووجل مقترح رسالة الإرفاق التالية. 

إلى كل من ابتلاه الله فولاه

سلام وبعد

ردَّدنا خلال العقود الأربعة الماضية، وبإفراط، مقولة الوظيفة تكليف وليست تشريف، غير أننا وجدنا أولئك المكلفين قد التصقوا بتلك الوظائف التصاقا حميميا بلغ حدَّ الشذوذ، وما سمعنا أحدا منهم أطلق أنَّة أو آهة أو أبدى تململا أو إعياء من تكاليف الوظيفة وأعبائها، بل وجدناهم كلهم قد هاموا في الوظيفة حتى الجنون!

لا شيء يبرر الهيام حتى الجنون، سوى غرق أمناء ورؤساء ومدراء ذلك العهد في بحار المتعة والسعادة والرضاء، وهو ما أفقد ذلك الشعار صلاحيته ومصداقيته، مما قلب مدلولات ألفاظه، فصارت كلمة التكليف، تعني نيل الحظوة والتشريف، وأصبحت الوظيفة العامة مغنما لا يناله إلا أحمق سفيه سخيف، وإذا النفاق  بعد أن طبع القلوب والنيات، تسرب إلى الألفاظ والكلمات!

تلك أمة قد خلت، وزمن قد ولى. وهو زمن سيطر فيه شخص سفيه، فولى أمور البلاد والعباد أزلامه ومريديه، وجعل سواهم خداما وعبيدا له ولبنيه.

إن الوظيفة التي كان يتكرم بها القذافي على من يركع له ويقبِّل قدمه، لم تكلف القذافي شيئا، وما كان يرجو منها القذافي سوى توطيد حكمه والدعاية له، وهو ما يفسر اقتصاره في إسناد تلك الوظائف على ذلك الصنف من الناس القادرين على تلبية شبقه وشذوذه، والذي يبدأ بتقبيل يد القائد الأسطورة، وينتهي بالذوبان الكامل في كفه المسحورة، ليشكل من المسوخ البشرية ما شاء له أن يشكل من أدوات إمتاع تسليه، ودروع حماية تحافظ على ملكه وتبقيه.

ها قد تغير الحال، وأتى بجديد المثال، وطرح أمامنا للمقارنة والاعتبار قراران؛ قرار يحمل تاريخ ما قبل فبراير، والذي كما قلنا لم يكلف القذافي شيئا، وقرار آخر يحمل تاريخ ما بعد فبراير، والذي كان ثمنه، كما نعلم، عشرات الآلاف من الليبيين ما بين موتى وجرحى وذوي عاهات، وكذا عشرات الآلاف بل مئاتها من أقارب وذوي أولئك الموتى والجرحى وأصحاب العاهات المسكونون بالأحزان والحسرات. وفي أسفل فاتورة المآسي يصدمنا ذلك الرقم المرعب المخيف لتلك الخسائر المادية الجسيمة جدا.

إن مئات آلاف الضحايا المذكورين هم الذين صاغوا بمداد المأساة هذا القرار الذي بين أيديكم، محملين إياكم أمانة ما أحرزوا من نصر على الظلم والظالمين والفساد والفاسدين، ومحذرينكم من أن أي زلل ترتكبونه بموجب قوة هذا القرار، إنما هو خذلان وخيانة لدماء زكية على الأرصفة سالت، واستخفاف بأرواح طاهرة نقية  في ساحة الوغى فاضت، واحتقار لأجسام احترقت وانطمست معالمها وزالت.

إن ضحايانا قد ضحوا من أجل العدل، فلا تظلموا. وضحوا من أجل الإصلاح فلا تفسدوا. وضحوا من أجل الديمقراطية فلا تستبدوا.

اذكروهم كلما حققتم بهذا القرار إنجازا، كان يوما من بعض أحلام الشهداء. وما كان هذا الإنجاز ليتحقق لو لم يتقدم أولئك الشهداء الأبرار، ويجعلوا من دمائهم حجر أساس ذلك الإنجاز، وكذا لما سواه من إنجازات.
اذكروهم كلما قرَّت أعينكم بمشهد من مشاهد ليبيا الجديدة التي طالما تمنى شهداؤنا أن يروها. وما تكرار خروجهم السلمي في أيام انتفاضتهم الأولى إلا محاولة بريئة منهم لتأويل أحلامهم ومناماتهم اللذيذة، والتي سرعان ما تدخل الكابوس وأوَّل كل تلك الأحلام على إيقاع لعلعة الرصاص وغرغرات المحتضرين وأنات المجروحين.

اذكروهم كلما تنسمتم عبير الحرية، وشربتم أنخابها العذبة، تلك الأنخاب التي امتدت إليها أصابع شبابنا الطرية النحيلة، فقذف بها السفاح بين أنياب مقصلته، ولم يسمح لهم ذلك الطاغية حتى بتحسس ملمس أيقونة الحرية، والتلذذ بمجرد النظر إليها عن قرب .

اذكروهم كلما مرَّ ركبكم الباذخ في شارع أو ميدان ارتوى أديمه بدماء الشهداء الأبرار، ذلك الأديم الذي ما لبث، بعدما تشرب بالدم الطاهر، إلا أن اهتز وأخرج شجرة الحرية السامقة التي ننعم الآن بظلالها الوارفة.

اذكروهم كلما قمتم بإعلاء صوتكم لإحقاق الحق وإبطال الباطل، دون اضطراركم إلى التلفت يمنة أو يسرة مخافة أن يصفعكم دكتاتور، أو يبطش بكم أحد حراسه.

اذكروهم كلما وردتم موارد المعرفة، فلم تجدوا أبوابها موصدة، وقد وقف عليها السفهاء الأغرار، وهم يمارسون وصايتهم على عقولنا، ويستخفّون بتطلعاتنا المشروعة إلى الاغتراف بأيدينا من معين العلم والثقافة، والنهل منه حتى الارتواء. ولمّا لم نطاوعهم  قاموا بقطع كل يد تمتد لكتاب، وبإخراس كل لسان يتهجى ألف باء التعبير الحر.           

اذكروهم كلما جُلتم بأبصاركم في رحاب الوطن، فلم تصدمكم وتفقأ أعينكم صورة وترهات ذلك الطاغوت التي أجبرنا السنين الطوال على وضعها بين أجفاننا والمقل.

اذكروهم كلما أصختم بأسماعكم إلى إيقاعات ما خلق الله من حناجر وأوتار، ووجدتم هذه الإيقاعات قد صفت وخلت من ضجيج أبشع صوت لامس سمع إنسان، صوت القذافي الآثم الكذاب.

إذا ذكرتم كل ذلك، وغيره كثير كثير، فسوف تفكرون ألف مرة قبل أن توقعوا بما يفيد استلام قرار التعيين، والذي هو بحق قرار ينضح آلاما، ويقطر أدماء.  

إذا تجرأتم، وتسلمتم هذا القرار، وقبلتموه، فرجاء احذروه.

وإن وجدتم أنفسكم لا تقدرون عليه، فخير لكم أن تتركوه.

وفقكم الله.

محمد الشيباني