شعرة معاوية، وشفشوفة القذافي
" لا أضع
سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو كان بيني وبين الناس
شعرة ما انقطعت، كانوا إذا شدوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها".
تلك هي شعرة
معاوية التي أصبحت مثلا يضرب كلما ذكر الحاكم الحكيم، وولي الأمر الرشيد الحصيف!
ولكن شفشوفة
القذافي التي نزعت عنه وقار الشيوخ، حتى كناه شعبه بها، فهي عرض لمرض نفسي عضال
تمكن من القذافي، وأخذ يجبره على التمدد والاستطالة في كل اتجاه، ولو كان ذلك عن
طريق ارتداء حذاء بقدم بالغ الارتفاع، أو بإطلاق العنان لشعر مجعد منكوش، أو حتى
بلبس الواسع الفضفاض من اللباس ذي الألوان
المثيرة والأنماط الغريبة.
لم يكن القذافي
كذلك في السنوات الأولى لحكمه، عندما كان يتردد علينا ونحن طلبة في الجامعة في
أوائل السبعينات، وذلك لحشد الأنصار من الطلبة الصغار الأغرار. آنئذ لم يكن من
الصعب رؤيته والحديث إليه، بل حدث ذات مرة أنه جلس على كرسي خشبي بسيط في مدخل أحد
بيوت الطلبة الواقع على شارع رئيسي، يحي المارين بالشارع ويحيونه.
كان على قدر من
الوسامة، عندما لم تكن له شفشوفة كالتي صنعها مؤخرا، وكان المادحون والمثنون عليه
منا أكثر من منتقديه والقادحين فيه.
وبمجرد ما أطلق
القذافي لشعر رأسه العنان، ولترهاته من كتب خضراء، ونظريات جوفاء خرقاء القياد،
وما صاحب ذلك من تكلف وإجبار وعنف، حتى تلاشت تلك الصور الحسنة له، بل صار القذافي
كابوس الليبيين، وصار لشفشوفته دورا أكبر من مجرد كونها فروة لرأسه!
تحولت كل شعرة من شفشوفة
القذافي التي تحوي آلاف الشعرات إلى سلاسل وأغلال وأصفاد وسياط وخوازيق، وأخيرا
إلى قذائف من نار وبارود مزق الأجساد وفقأ العيون وقطع الأوصال وشتت وشرد العباد.
خلت فروة رأس
القذافي الكثيفة من شعرة واحدة كتلك التي لدى معاوية، فأدمن القذافي وضع السوط في
المكان الذي يكفيه وضع اللسان فيه، ووضع سيفه حيث يجب أن يوضع سوطه، وشنق طلابا في
العشرين من أعمارهم لم يفعلوا سوى ما فعل القذافي نفسه عندما كان في سنهم، من مثل
قراءة كتاب فكري، أو إبداء ميول ما نحو فكر ما، أو غير ذلك من أفعال لابد وأن يمر
بها كل شاب. ولو أن القذافي استبدل مهرجانات الشنق للطلبة في بداية الثمانينيات
بجلسات حوار هادئة، ومناظرات فكرية هادفة، لنجاه ذلك من حمل دماء الأبرياء في عنقه،
ولكفاه من عناء رد الرأس المقطوع إلى جسده، عندما يحمل ذلك الرأس صاحبه، ويطلب من
قاطعه رده حيث كان!
ولكن أليس من
التجني أن نعيِّر شخصا ما بطول شعر رأسه، بل ربما من التكلف المخل أن نربط بين طول
شعر الحاكم وأفعاله!
لو لم يقم القذافي
بالانقلاب العسكري، وظل ضابطا بالجيش الليبي، ثم لم يلتزم بقيافة الضباط أمثاله، وأطلق
شعره، لما كان هذا الأمر يهمنا، وما كنا لنكتب عنه. ولكن القذافي أصبح رئيس دولة،
وكل تصرف يقوم به يوضع تحت المجاهر الالكترونية لتقصي أي أثر من خلل فيه.
القذافي لم يعبأ
بأي مجهر، فبمجرد تمكنه من الحكم، بدأت تظهر عليه علامات الاستخفاف بكل شيء، بداية
من هندامه، وانتهاء بتصوراته وقراراته وأحكامه، بل استخف بقومه، وربما بالناس
أجمعين.
شهق الليبيون شهقة
الحياة بعد أزيد من أربعين عاما موتا إكلينيكيا، وصاحوا وهم بين إغماءة ووعي بعبارة:
الشعب يريد تغيير النظام، وكان بإمكان القذافي أن يغير هذه العبارة، إلى عبارة:
الشعب يريد إصلاح النظام، ولكن شفشوفة القذافي التي لا شعرة فيها كشعرة معاوية
الحكيم، حركت في القذافي نزواته العدوانية الدفينة، فقابل الكلمة بالرصاصة، ورجح
إسقاط ألف شعب على إسقاط حاكم واحد.
وبدل أن يتجه ابنه
الشاب سيف إلى الشباب أمثاله الذين غصت بهم "الساحة الخضراء"، تسلل سيف
إلى مبنى الإذاعة، وأخذ يصب النار على البنزين، حتى أحرق نفسه وأبيه، ودمر بلدا
بكامله.
لو لم يشد القذافي
الشعرة المشدودة المتوترة، لما وجد ساركوزي أو غيره مجالا لقص هذه الشعرة، ولما
وجد برنار ليفي تلك المسارب الآمنة التي وفرتها له غابة شعر القذافي وشفشوفته
الهائجة حتى وصل إلى خدر ليبيا.
تُرى هل يساعد
استدعاؤنا المتأخر جدا لشعرة معاوية ومقارنتها بشفشوفة القذافي في إيقاظنا من
غفلتنا الطويلة، ونحن نقاد من قبل شخص حوى دماغه من صنوف الحمق والعدوانية والعبث ما
حوت شفشوفته من شعر متطاول معربد!
وهل يا ترانا ندرك
أن الحاكم الذي كل شعرات فروة رأسه كشعرة معاوية، يختلف اختلافا تاما عن حاكم آخر
يحمل شفشوفة كشفشوفة القذافي التي خلت من شعرة واحدة كشعرة معاوية.
محمد عبد
الله الشيباني