الثلاثاء، سبتمبر 25، 2012


أخطأ في الاختيار، فلا تخطئوا مثله

أيٌّ من كتائب الثوار، فرادى أو مجتمعين، أقوى من كتائب معمر الدفين؟

الجواب: لا أحد.

أعتذر عن خشونة عنوان المقال، وكذا على استهلاله بالسؤال.

أما الخشونة فمبررها ما تعج به بلادنا من عنف ورعونة.

وأما الاستهلال بالسؤال، فدافعي إليه هو اختصار طريق الجدال، واستعجال ما للحوار المختصر المفيد من خلاصة ومآل.

خُيِّر القذافي صاحب الكتائب الكثيرة الخطيرة بين الديمقراطية والحرب الأهلية؛ فهزأ من الديمقراطية، واختار الثانية؛ فكانت له القاضية.

أصحاب الكتائب القزمية الطرية هم أيضا الآن مخيرون بين دولة ديمقراطية مدفوع ثمنها دما وكاش بالتساوي وبالتضامن من جميع الليبيين، وبين إمارات كرتونية ولدت وتورمت بليل، لم يدفع في أسهم رأسمالها سوى أسهم فخرية لا تحمل أي قيمة سوى توقيعة انتهازي متربص مكار، قام بتعويم سعر السهم المصكوك بعملة حرية الوطن الغالية، والمغطى بثمين الدماء الطاهرة الزكية، وجعله مقوما بحطام الدنيا من سلطة زائلة ومال نافد.

راهن القذافي على الكتلة الصامتة الرخوة، ودأب على تحريكها بين أصابعه صانعا منها ملاهيه الكثيرة. ولما بالغ في اطمئنانه إلى لعبته السمجة، تحولت تلك الكتلة اللينة إلى أصابع من ديناميت، قطعت للزعيم الزنيم أصابعه في بنغازي الشرقية، وذلك قبل أن تأتي على ذراعيه ورأسه في نواحي ليبيا الغربية.

ولأن الكتلة الشعبية الصامتة ما عادت صامتة بعد أن اجتازت أصعب وأشق امتحان، فلم تمنح للمقلدين الدكتاتوريين الصغار ما منحته لكبيرهم الدكتاتور الكبير من وقت طويل وصبر جميل.

في بنغازي حطم ديناصور الكتلة الصامتة، سابقا، ما صنعه الهواة من صروح اتخذت من باب العزيزية أمثلة لها.

وفي بنغازي لم يُخير أشباه الدكتاتور وورثته بين الديمقراطية والحرب الأهلية، بل تم تخييرهم بين الديمقراطية، أو الهزيمة الحالّة الآنية.     

كتلة بنغازي، وكتل طرابلس، وكتل فزان، اتخذت جميعها الحجم الحرج حجما دائما لها، كما جعلت من مجس تحسس رائحة الدكتاتورية وممارسة الوصاية عليها فتيل انفجارها،  ومنحت فلول الدكتاتوريين الأوصياء الذين نجوا من ملحمة بنغازي فرصة ذهبية للنجاة بأنفسهم واللواذ وبالسرعة القصوى بالحمى الديمقراطي الواسع المنيف.

إن إقدام الليبيين على دفع الضريبة الباهظة من أجل إزالة الدكتاتورية ونجاحهم في ذلك، من شأنه أن يمنحهم الحق الكامل في الرد على هؤلاء الأوصياء بالحجة الدامغة التي تجرهم جرا إلى حلبة الديمقراطية والاحتكام إلى قوانينها الفذة، تلك الديمقراطية التي تجرم تطاول القلة وتمنع تسلطها، تحت أي مسمى كان، على حق الكثرة وتزوير إرادتها.


محمد عبد الله الشيباني


الاثنين، سبتمبر 24، 2012


حَول، تطرف، تكلف، ظلم. تُرى هل أفرح كل ذلك النبي؟!

أول ما يرتكبه المتظاهرون العفويون المنفلتون من أخطاء، مهما كانت عدالة قضيتهم، هو تعديهم على حق الآخرين في الطريق وتعطيلها وإشاعة الخوف فيها. أما ثاني أخطاء هؤلاء، وهو الأشنع، فهو محاصرتهم واستباحتهم لمكان يتمتع بحرمة مقدسة مستمدة من حرمة وأعراض وأموال ودماء ساكنيه.

الطريق والمأوى هما الملاذ الوحيد للأحياء ساكني الدنيا، والعبث بأي منهما إنما هو عبث بالحياة كلها.

الذين تظاهروا بسبب فيلم "براءة المسلمين"، ورغم أنهم، يرفعون راية الدين الذي يعظم حرمة الطريق والمأوى وأموال وأعراض وأرواح من فيهما، ويأمر بالرفق في كل شيء، إلا أن أيا من مظاهر الدين لم تكن بادية على هؤلاء المتظاهرين، سوى ما شمروه من ثياب، أو ما أرسلوه من شعر.


قناة تليفزيونية اسمها "الحياة"، تمارس فعالياتها بصوت جهوري صادح، وصورة واضحة صارخة، وعلى مدي اليوم، ليله ونهاره، متخذة من تقنيات الإعلام المتطورة سلاحا لها، ومن علوم اللغة والنفس والتاريخ أدوات تشكيك وهدم لعقيدة المسلم.

الحول الذي في عيون متظاهري الشوارع الهوج، حال بينهم وبين رؤية فيل قناة الحياة الذي يحاول أن يهدم بمعاوله العقيدة الإسلامية من قواعدها، بينما ضخم الحول نفسه برغوث الفيلم الواهي جدا فأحاله دينصور.

ركب هؤلاء الحمقى دينصور من حمق وجهل وتكلف وتطرف، فأغلقوا به الطرق وأرعبوا مرتاديها، ثم قصدوا مساكن ذات حرمة فهدموها على ساكنيها، واستباحوا أموالهم وأعراضهم ودمائهم دونما جرم ارتكبوه، بل ربما لم يكونوا على علم بما لأجله حرقوا وقتلوا. إنهم حقا مستأمنون غافلون قتِلوا بغير ذنب!

المتظاهرون المنفلتون قلة، ولكنهم يتكلمون باسمنا، نحن الكثرة الكاثرة، ويتصرفون نيابة عنا، نحن جماهير الشعب الصامتة، فينهبون باسمنا، ويقتحمون البيوت باسمنا، ويسفكون الدماء المعصومة باسمنا، ويوقعون على صكوك إدانة أخلاقية تلبسنا جرما مشهودا، وسندات خسارة باهظة ماحقة تلقي على كواهلنا دينا ثقيلا ممدودا.

إن إقدام الليبيين على دفع الضريبة الباهظة من أجل إزالة الدكتاتورية ونجاحهم في ذلك، من شأنه أن يمنحهم الحق الكامل في الرد على هؤلاء الأوصياء بالحجة الدامغة التي تجرهم جرا إلى حلبة الديمقراطية والاحتكام إلى قوانينها الفذة، تلك الديمقراطية التي تجرم تطاول القلة وتمنع تسلطها، تحت أي مسمى كان، على حق الكثرة وتزوير إرادتها.

إن ظروف بلدنا ليبيا الحالية الحرجة جدا وحاجتها الماسة للهدوء والأمان والتماس العون من كل جهة، تحتم على كل أبنائها تقدير هذه الظروف والتعامل بحصافة وذكاء مع ما تعج به الساحة من متناقضات ومتباينات، لا تزيدها العين الحولاء والذراع الهوجاء والفكرة الحمقاء إلا تناقضا، ولا نجني من ذلك إلا ضررا وتخلفا وضياعا.

اهدءوا أيها المتظاهرون المنفلتون، وخذوا نفسا عميقا يزود دماغكم بما يحتاج إليه من أكسجين الحياة التي يجب أن نعيشها بذكاء، ونتعامل مع تناقضاتها بهدوء ورشد ودهاء، ونحارب خصمنا بسلاحه الناعم الذكي المؤثر الذي يحاربنا به صباح مساء.

إن الكلمة والمعلومة سواء المتربعة في وسط كتاب أو جريدة أو مجلة، أو تلك الممتطية ظهر العنكبوت والمسافرة على جناح الأثير، لهي السلاح الأكثر ذكاء والأكبر تطورا والأقوى حجة والأقل تكاليف. إنها حقا الأجدى.

الناس كلهم خلق الله؛ مؤمنهم وكافرهم، والأديان والرسل كلهم من عند الله، وليس من العدل أن يكون تنافسنا في ذلك تنافسا نقتسم به غنيمة، يقتل بعضنا بعضا على الفوز بشطرها الأكبر. وإنما التنافس يجب أن يكون في دعوة الناس إلى دين الله وجمعهم في حظيرة الدين الحق الذي تزداد قوته في الأرض بزيادة المؤمنين به إيمانا عن قناعة موردها الوحيد الحكمة والموعظة الحسنة، ووشاحها الرفق والمعروف.

حرق المتظاهرون المنفلتون حتى الموت سفير دولة كبرى نحن بحاجة لها، وحطمت معاولهم الغبية صرح ثقة الناس بنا واطمئنانهم إلى نظامنا الديمقراطي الوليد، وهو صرح صنع شهداؤنا لبناته بغالي دمائهم ونفيس أرواحهم، وليس من حق أحد أيا كانت حجته أن يعبث بهذا الصرح، ويفرض علينا وصايته، ويرهن حياتنا ومستقبلنا لحَوله وحمقه وتكلفه وجهله.

قالوا فعلنا كل ذلك من أجل النبي.
ولكن النبي من كل ذلك بريء.



محمد عبد الله الشيباني



السبت، سبتمبر 15، 2012


إنهم يوقعون باسمنا، ثم يختمون بخاتم الرب، حقا إنه العجب!

أشد ما كان يغضبني ويؤلمني من تصرفات دكتاتور ليبيا السابق وعصابته هو إدمانهم ممارسة الوصاية الإجبارية على جموع الشعب الليبي والتوقيع باسمهم والتصرف نيابة عنهم كما لو أن هؤلاء الأوصياء وكلاء شرعيون ونواب موكلون بملء الإرادة وكل الرضا.

رفع القذافي شعار الشعب سيد الجميع، ولكن الجميع الذين كان يعنيهم القذافي ليس من ضمنهم بالطبع لا هو ولا أبناءه ولا باقي عصابته.

ورغم أن القذافي مارس أبشع أنواع الوصاية على الشعب الليبي إلا أنه لم يتجرأ على إلباس وصايته ثوب القدسية الإلهية كما يفعل بعض ورثة الحكم الدكتاتوري المتسلط هذه الأيام، والذين قاموا بتطوير هذا الإرث بطريقة تمنع تكرار الثورة عليه؛ إذ كيف يثور الناس على حكم الإله ونصوصه المقدسة التي لا يوجد من نسخها سوى نسخة واحدة كانت من نصيب هؤلاء الورثة المحظوظين.

إنه الكبر والعجز والكسل والتعجل الذي صبغ جميع أعمالنا.

ألم يكن من الممكن تأجيل إصلاح الباطل بعض الوقت يقوم خلاله دعاة الإصلاح باستيفاء شروط مهمتهم وتنفيذ كافة متطلباتها القانونية والاجتماعية وحتى النفسية؟

بلى، ولكنه الحمق الشبيه جدا بحمق القذافي عندما كان يحلم ليلا ثم يقوم صباحا بتنفيذ أضغاث أحلامه على الشعب الضعيف المغلوب على أمره.

إن حمل السلاح وحشد المتحمسين والتغرير بهم من أجل القيام بعمل مهما بلغت شرعيته من شأنه أن يفرغ هذا العمل من شرعيته.

إن تجاهل الدولة القائمة والقيام بعمل من ورائها مهما بلغت شرعيته وفائدته من شأنه هو الآخر أن ينزع كل شرعية عن هذا العمل.

كان من نتائج أعمال رعناء كهذه هدم بيت من بيوت الله تقام فيه كل الصلوات بحجة وجود قبر عتيق متهالك في إحدى زواياه.

وكان من نتائج أعمال كهذه أيضا مقتل أبرياء ذوي ذمة وعهود وذلك بحجة نشر فيديو تافه لا علاقة لهم به، بل ربما لا يعلمون عنه شيئا.

يُهدم المسجد، ويُقتل الأبرياء، وتتشوه سمعة البلد، وتتعطل مصالح الناس، والمتهم الوحيد عن كل هذه الأعمال هو دائما ممارسة الوصاية غير المشروعة من قبل فئة مستقوية تقوم  بالتوقيع نيابة عنا وتوريطنا فيما ليس لنا به علم ولا يجلب لنا نفعا.

ليس هناك من تفسير لكل التصرفات المذكورة سوى ازدراء الليبيين جميعهم وتهوين أمر حكومتهم الديمقراطية الوليدة.

وإذا صح هذا التفسير فليس أمامنا إلا الاعتراف وبمرارة بالغة بأن دم الشهداء حقا قد ذهب هباء!


محمد عبد الله الشيباني

الجمعة، سبتمبر 14، 2012



 قرأت فعرفت فاندهشت  

كلما علمت جديدا أو أدركت خافيا من خفايا نفسي، أو فيما حولي من أشياء التي أعلم بعض ظاهرها وأجهل كل باطنها، تملكني شعور أوله دهشة، ووسطه رضا وافتخار، أما آخره فيضعني في حالة يمكن تسميتها بحالة الخدر الذهني، حيث تختلط لدي مشاعر الدهشة والذهول وعدم القدرة على استيعاب ومتابعة تيار خفايا وأسرار بواطن تلك الأشياء، والتي تمدد لنا سطحها الظاهري فتعلقنا به وسرنا فوقه حقبا وآمادا طوالا قبل أن يأذن الله لأناملنا الطرية الذكية باختراق قشرة هذا الغشاء ونزع أول الأغلفة المتراصة تحته والتي لا يمكن لأحد أن يلمَّ بعددها أو يلامس عمقها، سواء هناك حيث عالم الفيمتو ثانية والنانو متر الذي تتضاءل فيه الأشياء حتى تغيب عن وعينا تصاغرا ودقة، أو هنالك حيث عالم الجزر المجرية والحقب الضوئية الذي تتعاظم فيه الأشياء حجما وحركة حتى تخترق سقف خيالنا وتتجاوزه، بل إنها تغيب في عالم اللانهاية .

عجيبُ العالم المجهري أنه رغم ضيقه ودقيق أحجام كائناته إلا أنه يشابه عالم  الأفلاك في آفاقه ومتاهاته، وفائق سرعة الأجسام الهائمة في فضائه، ذلك الفضاء الغامض الذي كثيرا ما ألجأنا ونحن نحاول شرح ظاهرة من ظواهره أو تفسير سلوك بعض ساكنيه ، إلى استخدام الإفتراض والتقدير في انتظار أن يأتي اليقين .

 أما عجيبُ عالم الأفلاك فإنه رغم اتساعه المذهل إلا أن كائناته تتمدد وتتعاظم  ولدرجة ضاق بها هذا العالم الأسطوري  حتى ألجأها هذا الضيق لأن تبحث لنفسها عن عالم أوسع عجز عقلنا حتى عن مجرد تسميته فأطلقنا عليه اسما زاد في تلغيزه ، وذلك عندما أسميناه عالم اللانهاية، وهي تسمية تشي بقصورنا حتى عن مجرد منح هذا العالم  اسما محددا له.     

أجل وكأننا بعد هذا المجهود الشاق الذي بذلناه وفائق تقنية ما نستخدمه من أدوات في ارتياد عالم الضآلة وعالم الضخامة على السواء، لا نجد بدا من الإعتراف بأن الطريق الذي نتعجل الوصول إلى نهايته يتمدد أمامنا كلما زادت سرعة خطانا عليه وإلحاحنا في طلب نهايته !

أمارس من حين لآخر هواية الترحال بخيالي عبر فضاء الوجود المطلق المثير، محاولا إطفاء حرَّ فضولي ولو بافتراضي ملامسة أبعد نقطة كان قد لمسها أصبع مكتشف في فضاء جسمي الشاسع الممتد، وكذلك أبعد نقطة في فضاء الكون اللامتناهي تسلل منها شعاع واه فقنصه مسبار.

مارست هذه الهواية أكثر من مرة  واستطعت أن أرى  ولو من بعيد جدا  أقزام العالم النانومتري البالغة الصغر والمتخذة من جزء المليار من المتر قصورا باذخة لها في ذلك العالم السحري المحير، كما استطعت أن  أرى في الطرف الآخر من الوجود عمالقة العالم الفلكي الأسطوري هائمة في فراغ لا نهاية له ولا قرار، متخذة من مدى ما يقطعه الضوء في ملايين ومليارات السنوات الضوئية أمكنة ودروبا لها.

 وعلى الرغم مما أتاحته لنا طفرة المعرفة التي أعذرت كل متذرع بجهل، إلا أنني كلما حاولت أن أستبرأ من جهلي بقرينة حب المعرفة واللهاث ورائها، متطفلا لا محترفا، أراني ازددت جرما جراء زيادة أدلة جهالتي، والتي تزداد التصاقا بي بازدياد معرفتي .

كنت للتو قد فرغت من قراءة موضوع بملحق مجلة العربي العلمي  2  /  2009والمعنون بعنوان " الماء، السائل الذي لا نعرفه " حيث أورد كاتب المقال ما توصل إليه أخيرا مركز بحثي أمريكي عندما قام برصد حركة الماء الذي نشربه وهو يتخلل نسيج أجسامنا مؤديا لعمليات حيوية وذلك بالإشتراك مع جزئيات حيوية أخرى مثل البروتين.

شبَّه التقرير حركة وشكل جزيء البروتين لحظة ارتباطه مع جزيئ الماء بحركة وشكل راقص الباليه  حيث ينتني جزيئ البروتين مكتسبا شكلا مميزا يكون أساسيا لقيامه بوظائفه الحيوية والتي لا يمكن له أن يقوم بها إلا عند اتخاذه ذلك الشكل الملتوي ووفق رقصة دأب على ممارستها في كل مرة صافح فيها جزيئ الماء ذاك منذ أن تقاسما الإثنان أداء هذا الدور الأزلي المولد، الأبدي البقاء  .

أثارني هذا التقرير الراصد لرقصة واحدة من الرقصات المقامة على خشبة المسارح الحيوية في غيابات أجسامنا دون انقطاع، وأراني من خلال كوة ضيقة ذلك المشهد البديع الرهيب من عديد المشاهد اللامتناهية التي يزدحم بها جسدي، متخذا وسيلة ايضاح له جرعة من ماء مهين دأبت على عبِّه وحقنه داخل جوفي السنين الطوال، ولم يخطر ببالي البتة أن هناك في تلك الأماكن الضيقة والظلمات الحالكة مسارح باليه ومهرجانات رقص يلعب فيها هذا الماء دور البطولة  مع مواد حيوية كثيرة مرتبطا بها تارة ومنفصلا أخرى وفي إيقاع منتظم ورقصة خالدة لا تقوم للحياة قائمة إلا عليها  .

 وللأمانة، ما كنت أعرف قبلا عن الماء سوى أنه سائل رقراق أتناوله عبر فمي لأطفئ به عطشي وليأخد طريقه بعد ذلك عبر مسارب وطرق ومحطات كثيرة في جسدي سمعت عنها الكثير ولم ألمس منها أو أرى إلا ما كان قد ظهر وانبرى  .

 وما ان تمكنت وبعد جهد ليس باليسير من استيعاب هذه القصة الأسطورية، والتي لولا شاهد العلم عليها ما كانت لتجد على وجه الأرض من يسمعها فضلا عن أن يقبلها أو يعقلها ، حتى فاجئني التقرير بما هو أجل وأعظم، ذلك أن حفلة الرقص تلك قد تم تصوير مشاهدها بواسطة آلة تعتمد استخدام نبضات فائقة القصر من أشعة الليزر لرصد عملية الإرتباط تلك بين جزيئ الماء والبروتين وفي مدى زمني قدره "بيكوثانية" والتي تعني جزء من تريليون من الثانية ! أي أننا إذا أردنا أن ننجز هذه المهمة فما علينا إلا أن نمسك بالثانية الواحدة الخاطفة السرعة الدقيقة القوام ونقسمها ألف ألف ألف ألف شظية ثم نمسك ببضع شظيات منها كانت قد احتوت المشهد وأحكمت عليه قبضتها، متخذة من أصابع تلك الكاميرا الخارقة  أصابع لها .

ولك أن تتصور تلك الأجواء المحمومة لتلك المعارك التي  تدور رحاها داخل أجسامنا على مدى العمر من ارتباط وانفصال واتصال واختزال، والتي تتخذ من الذرات المتناهية الصغر جنودا وأعتدة لها ، ومن الكهارب مراكب تمتطيها ، ومن شظايا الثواني المنسحقة مدى وشوطا زمنيا ينظم سيرها .

ترى ماذا يكون حالي لو انتقلت في رحلتي هذه ، وبسرعة ، إلى نافذة أخرى لأرى منها زاوية من زوايا الكون السحيق، والتي تتحول فيها البيكو ثانية إلى سنة ضوئية ، ويتحول فيه النسيج الحيوي المجهري إلى جزيرة مجرية، وتتحول فيه رقصة الباليه إلى حركة حلزونية لعناقيد ممتدة من المجرات العملاقة تطوف في فضاء لم نتمكن حتى الآن إلا من رؤية شظية صغيرة منه . ليس لي إن حدث ذلك إلا أن أعيد كتابة عنوان هذا المقال .. ليصبح قرأت فعرفت فاندهشت  لأضيف عليه .. وبالله آمنت .

قد يقول بعض من تبعني على مضض في رحلة طويلة كهذه : ما جدوى أن نذهب بعيدا ونحن  هنا في القريب جدا نصارع العلل والأمراض بكل أنواعها وأصنافها ، ونكابد المشاق للخروج من براثن التخلف والضياع ؟
سؤال وجيه ويحتمل عديد الإجابات ، إلا أنه لا تحضرني إلا إجابة واحدة عنه، وهي  أنني عندما أقوم بتلك الرحلة الإفتراضية الرخيصة التكاليف أعود بكنز عظيم يقضي عني ديونا كثيرة وبلسم قويم يداوي لدي عللا خطيرة . ألا وهو عرفاني بحجمي وحجم الكائنات الآدمية والأرضية الصغيرة القريبة مني ، فتزداد المساحة بيني وبين الآخرين، ويحد التوتر في داخلي وما حولي، ويتمدد هامش العذر، وحيز البراءة ، وينكشف غشاء الغفلة .. ويدب في نفسي شعور صادق لا ريب فيه بأن للكون إله تتصاغر أمامه كل الآلهة  المصطنعة والتي تشكل السبب الأكبر لكل علة نعانيها وكل مصيبة نكابدها .

محمد عبد الله الشيباني

السبت، أغسطس 25، 2012


الميتون سكان الأضرحة والقبور، والمعربدون ناشرو المخدرات والخمور!

لا خلاف في أن أي مظهر ينكره الشرع والعرف والقانون يجب محاربته وإزالته، ولكن بشرط استخدام الآلة الذكية والمشرط الدقيق، وتغطية كل ذلك بغطاء قانوني محكم.

المشرط الدقيق والآلة الذكية يزيلان الورم بدون ألم يذكر أو أضرار جانبية، والغطاء القانوني يؤمن تقليل الأضرار الجانبية لأية عملية مهما بلغ خطرها إلى المستوى الأدنى!

البلدوزر في مسجد الشعاب أمام الملأ وفي وضح النهار هو بالتأكيد آلة غبية وعمل مستفز، وذلك مهما بلغ ذكاء من يقود البلدوزر وتدينه، ومهما بلغت شرعية العمل الذي يقوم به.

كان بالإمكان إزالة قبر الشعاب بمطرقة وإزميل صغيرين رشيقين، وبدون خسارة ما للمكان الذي يضم الضريح، ومن غير ضجيج يذكر.

هذا من جانب، أما من الجانب الآخر فأيهما ألح إجراء وأشد خطرا وأجدر بالهدم والاقتلاع قبر ميت شبع موتا، أم معارض بيع الخمور والمخدرات المتبرجة أمام الملأ في وضح النهار، وفي مكان بارز يقع غربي مسجد الشعاب، ولا يبعد عنه سوى بضعة كيلومترات!

أرجوكم إذا قررتم أن تزيلوا المنكر المعربد من مخدرات وخمور وغيرها، فلا تكرروا الخطأ، وتستخدموا البلدوزرات، ولكن استخدموا من فضلكم الآلة الذكية والمشرط الدقيق، ولا تنسوا الغطاء القانوني المسربل.

عابد الضريح، وتاجر المخدرات هما عرضان لأمراض خطيرة تنخر نخاع المجتمع، كما أن ركوب بلدوزر وهدم واجهة مسجد في وضح النهار وبدون إذن أحد، ودون الأخذ في الاعتبار مشاعر أحد، هو أيضا عرض لمرض خطير يعبث بنخاعنا.

ماذا لو كان حول ضريح الشعاب من يخالف وجهة نظر سائق البلدوزر، وأحس باستفزاز ما من قبل هذا السائق ومرافقيه.

إنه من السهل في أوضاع كهذه أن تكلف إزالة الضريح ثمنا باهظا جدا!

الأمر نفسه سوف يحدث لو توجه البلدوزر وسائقه لأوكار بيع الخمور والمخدرات.

انتظرنا طويلا من أجل تغيير أوضاعنا السيئة، وما أكثرها. أفلا ننتظر قليلا من أجل حسن إزالة هذه الأوضاع بآلة ذكية ومشرط دقيق.

الجميع يعرف ذلك، ولكن يبدو أن الطبع يغلب التطبع!

محمد عبد الله الشيباني









الجمعة، أغسطس 24، 2012



الإمارات راضية بنسبة 90%. متى تبلغ ليبيا ذلك؟



وزارة الرضاء والأمن الاجتماعي

السادة: رئيس وأعضاء المؤتمر الوطني
مقترح بإنشاء وزارة الرضاء والأمن الاجتماعي

خلال عقدي الخمسينات والستينات  الماضية، ورغم خروج بلدنا ليبيا من بؤرة صراع عسكري كوني، وتملصها للتو من بين أنياب مستعمر إيطالي شرس، إلا أن مستوى الدفء الاجتماعي الذي عاشته خلال هذين العقدين كان أفضل بكثير من نظيره في عقود حكم القذافي الأربعة.

ذلك لأن الملك إدريس كان أبا أكثر من كونه حاكما، وكانت أجهزته الأمنية وبطانته المقربة مكبوحة بما يبديه الملك الأب من شفقة وحدب بالغين على أبنائه المواطنين، حتى بلغت درجة هذا الدفء حدا مكن المتورطين في جريمة الإطاحة بالملك نفسه في بداية الستينات من النجاة من العقوبة المقررة قانونا، وذلك عندما حكمت المحكمة على الانقلابيين العسكريين بالسجن اللطيف، إلا أن الملك أبى إلا أن يزيد في لطف ذلك الحكم، وإلى درجة العفو التام.

وبرغم ما بثه هذا الوضع من دفء اجتماعي محبوب، إلا أنه على الجهة الأخرى ساعد في تفقيس بيوض الأفاعي والثعابين، ويسر، وبكل أسف، أمر الانقلاب القذافي المشئوم.

حاكمنا الدكتاتور رأى في أمن اجتماعي كذلك الذي كنا نعيش ما يشجع كل ليبي على استنساخ العملية الانقلابية، فشرع في هدم صروح الأمن الاجتماعي القائمة جميعها، واستبدلها بصروح لأجهزة أمنية من صميم عملها أن تجعل المواطن في قمة الرعب كلما اقتربت منه هذه الأجهزة وأظلته، كما عزز هذه الأجهزة بلجان ثورية تخصصت في دق الأسافين بين السلطة والمواطن، والمواطن وأخيه المواطن، وذلك من خلال تأجيج النعرات والصراعات القبلية والفئوية المختلفة، ثم غلف كل تلك الإجراءات الخبيثة بغلاف الفقر والجهل الممنهج، ونشر العلل الجسمية والاجتماعية بين الناس.

وإذا ما أنصتنا إلى لسان حال الناس وهم يرفلون في ظل الأمن الجماهيري، فإننا نسمعهم يئنون هامسين بعبارات التعجب والاستنكار التالية:

ــ أي أمن اجتماعي، وكلمة أمن نفسها، وبرغم رقة حروفها وليونتها، وما أسبغها عليها معجم العربية من وردي المعاني، إلا أنها ترادف في المعجم المقابل، معجم المعاني الجماهيرية: الموت، وربما شيئا أكثر رعبا من الموت!

ــ أي أمن اجتماعي يشعر به الفرد، وهو يرى دم البريء يسفك في ألق الضحى والناس شهود!

ــ أي أمن اجتماعي يشعر به موظف المائة دولار في دولة نفطية وهو يرى السارقين يتنافسون أيهم يمارس سرقته المليونية أمام أكبر عدد من العيون!

ــ  أي أمن اجتماعي والفساد الإداري والاقتصادي والسياسي يتحكم في مفاصل الدولة، حتى لونت صبغة الفساد القاتمة وجوه الأشخاص المعدودين المتناوبين على التواجد في تلك المفاصل وميزتهم، وإذا ما صادف ورأيت بينهم وجها غير مصبوغ بتلك الصبغة، فسرعان ما تدرك أن ذلك الشخص قد اخطأ الطريق!

ــ أي أمن اجتماعي وبطاقات الميز العنصري القبلي توزع في الخفاء على خفيفي العقول سفهاء الأحلام، حتى تكاثروا، وصنع منهم الدكتاتور جيشا سرعان ما خلع شعار الوطن وعلق شعار القبيلة، حتى حلت أسماء القبائل محل أسماء أركان الجيش والمؤسسات الحكومية النافذة!

ــ أي أمن اجتماعي وكل يوم يمر يخطف فيه غول المخدرات فلذات الأكباد الذين حولهم الإدمان من صبيان أبرياء يستعجل آباؤهم بلوغهم ونضوجهم، إلى مارقين أشقياء يتمنى ذووهم موتهم!

تحامل بركان الخوف والبأس الاجتماعي الشديد هذا، ولم يكن أمامه بعد هذا التحامل إلا الانفجار. وانفجر البركان، وغطى سواده الوطن بأكمله، لتجري تحت سحابة دخانه حرب منكرة يخجل من ذكرها حتى الذي كسبها!

ولئن أفلحت الحرب في إسقاط رأس الخوف، ولكنها لم تفلح في إسكات من لم يزل يصرخ قائلا:

ــ  أخاف من الذي لا يخاف من الحاكم، والذي لا يقيم للدين والعرف والقانون أي حساب!
ــ  أخاف من الذي لا يرعوي من الطوق الاجتماعي حوله!
ــ  أخاف أيضا، وبشدة، من الذي لا يراني إنسانا مثله، بل يراني وحشا ينازعه فريسته!
ــ  أخاف كذلك من ابن الوطن الذي يقلب التنافس المحمود بيني وبينه إلى صراع وجود!
ــ  أخاف من الذين لا يشبعون!
ــ  أخاف من الحمقى والسفهاء!
ــ  أخاف ممن عربدت الهرمونات العدائية الطبيعية والصناعية في دماغه، فلا يستطيع أن يراني على حقيقة هيئتي كإنسان، بل شيئا آخر مختلفا يجلب له التقزز والغثيان!
ــ أخاف ممن أصبح البارود ومستوعباته جزءا من زينة بيوتهم وألعاب أطفالهم!
ــ أخاف من الذين تصلبت طبلة آذانهم، فيسمعون دوي الانفجار كما لو أنه شقشقة أطيار!
ــ  أخاف من المتألهين، والذين على الله متألين!
ــ  أخاف من الرماديين والمنافقين!
ــ  أخاف من الذين يرون الدموع ماء والدم نبيذا!
ــ أخاف من الذين يعاينون الخطر بأم أعينهم فلا يرعوون ولا يبالون!
ــ أخاف من الذين يطعمون الناس سما وموتا مؤجلا مقابل زيادة خانة أو خانتين في رصيد حساباتهم!
ــ أخاف من صبي للتو أضحى شابا، ثم انخرط على الفور في استحثاث كامل غرائزه وجميع نزواته وصار يتشامخ ويتعالى بها على كل شيء!
ــ أخاف من ذلك المخزون الاستراتيجي من أصناف المخدرات، والتي لن يجد مروجوها الأقوياء صعوبة تذكر في إلقامها لفلذات أكبادنا الغافلين.
ــ أخاف ممن أسكرته العصبية والقبلية فلا يرى القبيلة جزءا من البلاد ولبنة في صرحها، بل تراه يرى البلاد مجرد حصاة في أحد وديان قبيلته البدوية القصية!

كل أنواع الأخطار عاليه معروفة، وهي تتوزع في قطاعات مختلفة  تتولى شانها وزارات وأجهزة الدولة، إلا أن الدور المتوخى من وزارة الرضاء والأمن الاجتماعي المقترحة أن تلعبه، هو قيامها بدور المجس الحساس الذي يتحسس أعراض تلك الأخطار قبل وصولها، والقيام بمهمة التنسيق بين أجهزة الدولة وهي تتعامل مع هذه الأخطار وتحاربها.  

إن وزارة الرضاء والأمن الاجتماعي سوف يكون أمامها عمل عاجل قصير المدى يتمثل في لم شمل الوطن، وذلك بالإسراع في عقد مؤتمر وفاق وطني يضم جميع أطياف المجتمع الليبي ممن يرون ليبيا فوق كل الخلافات.

كما أن لوزارة الرضاء والأمن الاجتماعي عمل طويل المدى، تقوم الوزارة من خلاله بالعمل على استئصال كل ما غرسه نظام الاستبداد والدكتاتورية من بذور خوف وانعدام ثقة بين الليبيين، وتزرع بدل ذلك بذور الأمن والثقة والأمل.

المواطنون الليبيون في عمومهم مرعوبون ومحتقنون نفسيا، وذلك بسبب ما تراكم في نفوسهم من سحق معنوي، جراء عدم الشعور بالأمن الاجتماعي، وهي حالة لا يجد الناظر في عين أي ليبي صعوبة في إدراكها.

لا يمكن لنا أن نرقى بمستوى رضاء الليبيين عن معيشتهم في وطنهم، وبلوغ نسبة الرضاء التي أحرزتها الإمارات مثلا، والتي بلغت 90%، دون أن نوكل هذا العمل الجبار إلى وزارة بعينها تستهدف أول ما تستهدفه نزع الخوف من قلوب الليبيين وحقنها بالرضاء.

وليس لدينا أي شك في أن الرضاء والأمن الاجتماعي سوف يكون له الحيز الأكبر في أجندة الحكومة، إلا أن إقامة جسم متخصص يناط به تحقيق هذه المهمة في أقصر مدة ممكنة، مما يزيد في تسارع تحقيق هذه الغاية التي تأخرنا كثيرا في الوصول إليها.

محمد عبد الله الشيباني


الاثنين، أغسطس 20، 2012



حاكموا سيفا. دعوه يتكلم، فربما منه نتعلم!


العدل ميزان كبير بطول وعرض الكون، ومهما اختلف المختلفون، فإن حيزا ما بين كفتي هذا الميزان العملاق سوف يستوعبهم، وسيجدون فيه قاعدة معيارية تترجم فعل كل منهم إلى أوزان قانونية مطلقة مجردة، ثم تضع هذه الأوزان في كفة كل خصم، وتقرأ على الملأ ما كتب الميزان.


أكبر الخصوم وأخطرهم في ساحة الخلاف الليبي القائم، هو المتهم الأول: معمر القذافي، وهو الذي عليه اختلف الليبيون؛ فشطرٌ منهم برّأه وناصره، وشطر آخر جرِّمه وحاربه. ولو أن القذافي حي لوجبت محاكمته محاكمة عادلة، ولأسكتت مطرقة القاضي صخب المتخاصمين مهما علا.


المتاح محاكمته الآن هو سيف ابن القذافي، وهو لا يمكن مؤاخذته بما فعل أبيه، ولكن في محاكمته محاكمة لمرحلة هامة وخطيرة من مراحل النظام السابق، عليها الآن يختصم الخصوم ويختلف الليبيون.


حاكموا سيفا؛

دعوه يُسمع الجميع بأنه كان أحد الليبيين الذين ضاقوا ذرعا بالجماهيرية وسلطة الشعب وتصرفات أبيه الخرقاء. دعوه يردد ما كان يردده وهو يُعد نفسه لوراثة أبيه، وكيف كان يحلم أن يرى ليبيا التي أفسدها أبوه ورجال أبيه.


في أحد خطب سيف التصحيحية منذ سنوات ظننت أن الرجل انقلب على أبيه!


حدثني من خلا بسيف واستمع إليه وهو ينتقد نظام أبيه، بأنه كان يغشاه الخوف وهو يستمع لما يقول سيف عن أبيه ونظام أبيه ورجال أبيه!


في ليلة إلقاء سيف لخطابه المشهور في بداية الأحداث، دخل سيف إلى مقر الإذاعة التي ألقى منها الخطاب، فوجد في استقباله علي الكيلاني، فبادره سيف بعبارة: "خربتونا بيتنا الله يخرب بيوتكم"! لا أجد تفسيرا لذلك سوى سيطرة البطانة على ملك الملوك، وهي التي هدمت بيته!


ربما حاول سيف التحرر من أذرع الإخطبوط، إلا أن مركز قُمَّع الإعصار الذي صنعه أبوه مستعينا بأقطاب نظامه من أعضاء اللجان الثورية وعتاة الأجهزة الأمنية وموالوه من القبيلة القذافية، قام بجذب سيف بقوة إلى الداخل، فتحطمت بوصلته وانخرط في الحرب ضد من كان يمَّنيهم بليبيا الغد والديمقراطية والرفاه والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.


يجب علينا أن نقف قليلا، بل ونطيل الوقوف، في تلك اللحظة التي خلع فيها سيف بذلة عدم قناعته بنظام أبيه، وقيامه باستبدالها بسيف ودرع حاول أن يحمي بهما خيمة أبيه، ولكن بدون جدوى.   



هذه اللحظة، وبكل أسف، تمددت تسعة أشهر، وشملت الآلاف غير سيف، وسببت ما سببت من خسائر، وها هي الآن تتمدد أكثر لتصنع في النسيج الليبي الرخو شرخا عميقا بعمق مليون ذراع.


حاكموا سيفا؛

دعوه يظهر ما كان عليه نظام أبيه من فساد، دفع الابن إلى انتقاد ما يفعل الأب!

حاكموا سيفا؛

دعوه يكشف بعض ما كان يجري في خيمة أبيه، ويصف لنا   حال أبيه، وقد تحلق حوله مريدوه الأصفياء من لجان ثورية وغيرهم يزينون ما أوحى الشيطان إليه.

حاكموا سيفا؛

دعوه يظهر لنا النقطة التي تحامل فيها جبل الخطايا للنظام السابق، ووصوله إلى نقطة اللاعودة، والتي عندها يفقد صانع الأخطاء القدرة على التصحيح والتوبة، برغم إتاحة ذلك للجميع، إلا من أبى!


حاكموا سيفا؛

دعوه يكشف لنا عن أسرار الخريطة الجينية لأبيه، والتي لابد وأن بعضا من حلقاتها تشابه تماما الخريطة الجينية لإبليس الذي فقد السيطرة على تغيير مسيره، رغم تيقنه من سوء مصيره!


حاكموا سيفا؛

دعوه يتكلم ليؤكد لنا حال بيت القذافي وأسرته الصغيرة، وكيف كان أهل هذا البيت ينظرون إلى العائلة الليبية الكبرى، وذلك حتى يعلم الليبيون جميعا حقيقة ما يشاع عن ذلك البيت!


حاكموا سيفا؛

دعوه يكشف لنا سر انقلاب الرؤساء من أصدقاء أبيه على أبيه، وكيف تداعى من بعدهم العالم كله بإنسه وجنه وشجره وحجره على الحاكم الذي قرر حرق شعبه!


حاكموا سيفا؛

دعوه يصور لنا الصورة التقريبية المتوقعة التي رسمها الخبراء العسكريون لبنغازي بعد إطلاق سيف لكلمة السر المرعبة المنشورة على الأثير: "it is too late  "، وذلك في إشارته لعدم جدوى أي عمل يحول دون المذبحة الجماعية لأهل بنغازي!


حاكموا سيفا؛

دعوه يكشف لنا عن الذي لا نعرفه من ثغور مكشوفة في جدار الوعي الليبي، والتي من خلالها تمكن القذافي من سوقنا أربعين عاما وزيادة نحو حتوفنا!


حاكموا سيفا؛

فربما لا زالت تلك الثغور مكشوفة، وبدل أن كان ثوريو سبتمبر يعلقون عليها شعار" الفاتح أبدا"، يعلق عليها أشباه الثوار الآن عبارات أخرى وهمية!


حاكموا سيفا؛

فقد تجدون أشباها كثرا لسيف، وقد فعلوا ما فعل سيف، فحلموا كما حلم بليبيا الغد، ولكن إعصار القبلية والفئوية والفساد أخذهم بعيدا عن ساحة التحرير وميدان الشهداء، وقذف بهم من ساحة الحرب ضد الطغيان إلى زوايا مظلمة وقاعات اجتماعات منزوية مشبوهة يعربد فيها الطغيان!


حاكموا سيفا؛

فربما الكثير من مناصري النظام السابق الذين يستمعون إلى الأسئلة الموجهة لسيف أثناء محاكمته، سوف يحاولون هم أيضا الإجابة عن هذه الأسئلة، ويحددون بذلك موقعهم من سيف ومن نظام أبيه، وحتى من مصيره ومصير أبيه!


حاكموا سيفا؛

فإن في وقع مطرقة القاضي الحد الفاصل بين المشتبهات الكثيرات، تلك المشتبهات التي يتخلل ورمها الجسم الليبي ويفتته أشلاء!


حاكموا سيفا؛

فلابد أن القضاء بهذه المحاكمة سوف يسجل الكثير من السوابق القانونية، والتي سوف يكون لها مكانا بارزا في محاكمة الكثير من الليبيين من أشباه سيف!


لو كان لي رأي في أمر القذافي ساعة القبض عليه لفضلت مساومته على الإبقاء عليه حيا مقابل تزويد الليبيين بتسجيل كامل عن سيرته، وذلك من أجل اكتشاف أدغال تلك الحقبة السوداء وما فعل شياطين الظلام فيها، والذين لم يكفهم اقتطاع أربعة عقود من دولة وليدة، بل نراهم الآن يمدون مخالبهم إلى الحلم الليبي الرهيف من أجل وأده ودفنه في تراب الحقد والتشاحن والتباغض والانتقام.


حاكموا سيفا، وأذعنوا لحكم القضاء العادل فيه، والذي لن يكون عادلا إلا إذا ذيل منطوق حكمه بعبارة تفيد بسريان الأحكام التي صدرت في حق سيف على كل من فعل فعل سيف، وكذا فعل أبي  سيف.


محمد عبد الله الشيباني