هَبْ، يا قاتل شعبك، أنك انتصرت!
أعلم أن سنوات مكوثك في أرجوحة حِلم الله وإمهاله، جعلت منك كائنا غريبا عن كل ما حوله من تضاريس مكان، وتصاريف زمان، بل وأفقدتك قدرتك على التعامل مع من هم مثلك من بني الإنسان.
ربما لم تكن الحاكم الوحيد الذي يقضي كل هذه الفترة حاكما، ولكنك أنت الحاكم الوحيد الذي حظى ببيئة حكم تكاد تكون مثالية، في اتساعها وتجاوبها وليونتها مع كل ما أثقلتها به من أصناف تخلفك وسفاهتك وتسلطك ودكتاتوريتك، وما أرهقتها به من عقد شخصيتك، وغرابة أطوارك.
أجل. أمهلتك السماء، إمهالا تحسد عليه، وأسلمت لك الأرض قيادها، وطوَّع لك المال الذي سرقت، والسلطان الذي اغتصبت، الكثير من النفوس التي مسخت بعضها فألهتك، وبعضها لخبثها نافقتك وخدعتك، ولكن ما من أحد على وجه الأرض اقتنع قط بما تهذي به من ترهات وإفك .
هدهدتك أرجوحة الإمهال الإلهي على إيقاعها المسكر طويلا، فانخرطت في نوبة شبيهة بحالة فقدان الوزن التي تختل فيها كل المعادلات المألوفة، ويفقد كل من وقع في نطاقها كل ما كان يربطه ببيئته الأرضية والإنسانية.
أفقدتك أجواؤك المصطنعة حتى مجرد الإحساس بما يفعله سيف الزمن البتار، والذي، ورغم تجاهلك المخجل لما عمله فيك حدُّه البيولوجي من ضربات موجعة، إلا أنك تحاول يائسا مقاومة ذلك، وبطريقة أضحكت عليك كل من رآك، وإن كتم ذلك وراءاك.
وكما حاولت، بذكائك الرخيص، إخفاء أثر الزمن في مظهرك، ظننت أنك بذلك تخفي أثر الزمن في كل شيء سواه؛ في وضع أصابعك في أعين الناس أربعين عاما، وفي الحجر على عقولهم، وفي إبطاء بل إيقاف دورة حياة أحلامهم وآمالهم، بل وفي إيقاف حركة عقولهم.
مسحت رياح الفراغ الهائجة التي تلوح بك في كل اتجاه، كل البيانات التي على لوحة بوصلتك، واضطربت بذلك كل مؤشراتك، ففقدت الإحساس بجهات الدنيا الأربع، وصرت تسير متخبطا وعلى غير هدى.
اقتصرت وجبات تغذيتك النفسية والروحية خلال مدة حجرك الطويلة على ما يقدمه لك طباخوك المتخشبون من أغذية فاسدة ومسمومة، أجهزت سمومها المدسوسة لك على ما تبقى من خلاياك الواعية الراشدة.
ولأن فترة الإمهال قاربت على الانتهاء، اضطربت حبال أرجوحتك مؤخرا، وتغير إيقاعها، ودقت بعض أجراس الخطر، فاستيقظت مفزوعا مرعوبا من إغماءتك الطويلة، لتتمتم ببعض عبارات الإصلاح الفارغة، وتلقنها من تراه أهلا لخلافتك، فلم تسعفه فصاحته المتكلفة في ترديد هذه العبارات، ولا فسحة الوقت الشحيحة التي أبقيتها له في تنفيذ هذه الإصلاحات.
وكما قامت تلك الأجراس بإيقاظك من نومك العميق، أيقظتْ أيضا من مواطنيك من ظننت أنهم نائمون إلى يوم يبعثون، وذلك لفرط ما حقنتهم به من مخدرك المركز، والذي هو الآخر فقد مع طول الوقت فعاليتهـ والتقى هذا وذاك على تاريخ قد قـُدِر، ألا وهو يوم السابع عشر من فبراير الأغر.
يا أيها السادر في نومك وغيك:
إن الأرجوحة التي كانت تهدهدك، تآكلت حبالها، والوقت الذي كان ممتدا أمامك تقلص، ولم يتبق فيه سوى سويعات احتضارك الحرجة القصيرة.
كما أن تلك الجموع التي عهدتها نائمة استيقظت، وانتبهت من غفلتها العميقة، وهي في غاية التحفز للثار ممن قتلها سريريا السنين الطوال.
تبدلت الأرض غير الأرض، وتبدل الزمان غير الزمان، وحتى كاريزمتك التي صنعتها من غفلتنا، وجهلنا، وحاجتنا، أذابت شمس السابع عشر من فبراير طبقة جليدها الهشة، فتحولت تلك الكاريزما المغشوشة إلى طاقة إجرامية ملأت أركان الوطن بأفعال القتل والاغتصاب وجلب المرتزقة، وفضائح أخرى لا حصر لها.
هب، أيها الغاش رعيتك، أنك انتصرت!
هل ستظهر علينا بوجهك القبيح المقرف المقزز، الذي يمقته كل الليبيين لما عهدوه فيه من شؤم، والذي سيتضاعف آلاف المرات بعد أن غطت دماء ضحاياك كل بقعة من جسدك.
هب، أيها الغادر، انك انتصرت!
هل ستعود حاملا سياط كتابك الأخضر التي جلدتنا به العقود الطوال، ولتعيد على مسامعنا ما كنت تتقيأه من إفكك وترهاتك القديمة البالية.
هب، أيها السفاح، أنك انتصرت!
كيف ستظهر أمام آلاف الثكالى، واليتامى، والأرامل، وهم يعلمون أنك أنت من صنعت لهم هذه الفجائع، وأفقدتهم أعز ما يملكون.
هب، أيها السكران، أنك انتصرت!
هل ستجد حلاوة ونشوة كأس الكرسي الذي أدمنت، وقد أصبحت هذه الكأس ممزوجة بدماء رعيتك الغافلة البريئة، والتي خولك الله حكمها، من أجل أن ترعاها، فغدرت بها وأسلت دمها وديانا.
هب، أيها القاراقوز، أنك انتصرت!
هل ستجلس متشامخا متعاليا على كرسي الحكم، كما هو ديدنك، وهل سيقوى على ذلك هيكلك العظمي الهش، وبدنك السبعيني العليل المتهالك، والذي زاد من تهالكه ما قمت به مؤخرا من صولات وجولات مخجلة مخزية في ساحة حرب، ورطت فيها شعبك، بعد أن حكمتهم مكرهين أربعين عاما.
هب، أيها المستبد، أنك انتصرت!
هل ستحتفل بيوم عيد استيلائك على الحكم، وتفاخر بإنجازاتك العظيمة، والتي سيكون أعظمها وأحبها إليك، قيامك بإخماد انتفاضة شعبك من اجل الديمقراطية.
هب، يا هاتك الأعراض، أنك انتصرت!
هل ستظهر علينا في كامل زينتك، كما كنت تفعل، وقد أجلست أبناءك القتلة السفاحين من حولك، وبيد كل واحد منهم سيف تقطر منه دماء عشرات الآلاف من الليبيين.
انتصر، أو لا تنصر، فأنت مهزوم.
انتصر، أو لا تنصر فأنت لا محالة نادم.
انتصر، أو لا تنتصر، فلن تتجرع سوى الحسرة.
انتصر، أو لا تنصر، فلن يطلق عليك التاريخ سوى هازم شعبه.
انتصر، أو لا تنصر، فلن تتحصل سوى على جائزة أشرس دكتاتور.
محمد الشيباني
aa10zz100@yahoo.com